وبمناسبة الحديث في هذا الموضوع، اعتقد ان من المهم ان يمارس العراقيون كامل حريتهم وارادتهم في عملية الاختيار في اية انتخابات قادمة في العراق الجديد، ليتحملوا المسؤولية ازاء هذه الخيارات، فيقاتلوا من اجل صيانتها باسنانهم كما يقول المثل، فلا يفرطوا بها، او يتنازلوا عنها، او يتفرجوا عليها اذا ما سولت لاحد من اللصوص نفسه لسرقتها والاعتداء عليها.
ان على العراقيين ان يمارسوا حقوقهم الوطنية في الاختيار بملء ارادتهم، فلا يجبروا ــ بضم الياء ــ على خيار ولا يهددوا لصالح او ضد خيار، كما ان عليهم ان لا يدعوا احدا يجبرهم على خيار او يكرههم على آخر او ضد آخر.
ثانيا؛ هناك علاقة طردية وطيدة بين الحقوق وتنمية روح المسؤولية، فكلما تمتع الانسان بحقوقه، كالحرية وعلى راسها حرية التعبير والمساواة وعلى راسها تكافؤ الفرص، والمشاركة الحقيقية في الشان العام، كلما نمت عنده روح المسؤولية، لان الانسان، اي انسان، بحقوقه يشعر بمسؤوليته، وهذا امر انساني طبيعي، اما اذا لم يتمتع الانسان بحقوقه، وهو بذلك يفقد آدميته وانسانيته، فكيف تريده ان يتحسس بالمسؤولية، وهو العبد الذليل المميز عن بيقة المواطنين اما على اساس دينه او قوميته او انتماءه الفكري والثقافي او السياسي؟.
لذلك، يجب ان يتمتع المواطن في العراق الجديد بكامل حقوقه اولا وقبل كل شئ، لنحمله المسؤولية بعد ذلك، وان من الخطا ان نتصور العكس ابدا، لان مواطنا بلا حقوق لا يمكن ان نحمله المسؤولية، او ان يشعر هو من تلقاء نفسه بالمسؤولية، ولذلك فقد منح الله تعالى حقوق الانسان لحظة ولادته، وهي تنمو وتكبر معه، ثم حمله المسؤولية، فقبل بها هذا الانسان، بغض النظر عن جديته في تحمل المسؤولية ام لا، المهم ان الله تعالى القى عليه الحجة فمنحه الحقوق اولا ثم طالبه بتحمل المسؤولية، والتي تكبر وتتسع كلما كبرت وتوسعت حقوقه، وهذا ما يجب ان تفعله الدولة العراقية الجديدة، فلا تفعل كما كان يفعل الطاغية الذليل صدام حسين، الذي صادر كل حقوق المواطنين، وفي نفس الوقت كان يحملهم كامل المسؤولية، على ماذا؟ على شئ لم يختاروه او يفعلوه، ولذلك لم يدافع عنه وعن نظامه حتى اقرب المقربين اليه عندما تعرض للغزو في العام 2003.
ثالثا؛ كذلك، فان هناك تناسب طردي وطيد بين روح المسؤولية، ومبدا الرقابة والمحاسبة، اذ كلما شاع الاخير في المجتمع، كلما نمت روح المسؤولية عند المتصدي للشان العام، والعكس هو الصحيح، فعندما لا يشعر المسؤول ان فوق راسه من يحاسبه، او ان من صوت لصالحه في الانتخابات ليصل الى سدة المسؤولية، عاد الى بيته ليغط في نوم عميق، من دون ان يعرف ماذا يفعل المرشح الذي فاز بصوته، وماذا انجز وكيف؟ فان روح المسؤولية سوف تموت عند هذا المسؤول.
قد يقول قائل، بان روح المسؤولية يجب ان تنمو ذاتيا عند الانسان الذي يتصدى للشان العام، هذا اذا كان مسؤولا صالحا يتحسس آلام وحاجات وتطلعات الناخبين، اذ عليه ان يضع الله تعالى والمصلحة العامة بين عينيه، ليتحمل المسؤولية بشكل صحيح.
واقول بصراحة، فان مثل هذا الكلام تنظير لا طائل من ورائه ومثالية مفرطة، فلقد اثبتت التجارب بان الانسان، اي انسان، لا يخاف الله اذا لم يسلط الناخب فوق راسه سيف الرقابة والمحاسبة، لاننا لم نعد نملك الامام علي بن ابي طالب عليه السلام بين ظهرانينا، الا من خرج بدليل، علي الذي سأل، اولا، طلحة والزبير عندما جاءاه ليلا في قضية ما، اهي عامة ام خاصة؟ فاجاباه، بل خاصة، فعمد اولا الى اطفاء نور السراج الذي كان يهتدي به لانجاز المهمة، ولما سالاه عن السبب، قال لان زيته من بيت مال المسلمين، وان القضية التي جئتماني من اجلها هي قضية خاصة، ولذلك لا يحق لي ان استفيد من مال العامة لشان خاص.
تعالوا نكون واقعيين، فلا نحسن الظن كثيرا بالمسؤولين، بل علينا ان نفعل ــ بتشديد العين ــ مبدا المحاسبة والمساءلة والرقابة ليتحسس المسؤول مسؤوليته على اكمل وجه.
واقول، وبقلب يعتصر الما، فاننا العراقيين لم نتعود على مبدا الرقابة الذاتية، كما ان الوازع الديني والوطني عندنا ضعيف جدا، ولذلك يجب ان نعوض كل ذلك بالرقابة الفعلية والقانونية، من اجل ان نضمن سلامة المسيرة.
لقد شاهدنا كلنا، ولا نزال نشاهد يوميا، كيف ان عامل البناء، مثلا، يتهرب من المسؤولية لحظة غياب عين المسؤول عنه، فهو يعمل كعقارب الساعة بشكل جيد وصحيح لا زال صاحب الدار، يراقبه ويقف على راسه، كالشمر على حد قول العراقيين، اما اذا غابت عنه عين الرقيب لحظة، فترى احد العمال قد حمل الابريق واختلا خلف المبنى ليقضي حاجته، ولم يعد الى عمله الا بعد مرور نصف ساعة، ان كان حريصا على عمله، والا فليس اقل من ساعة، والثاني يجلس تحت اشعة الشمس ليدخن سيجارته، وهو بالطلع لا يكتفي بالسيجارة المصنعة والمعدة للتدخين، وانما يعمد الى (اللف) التي تاخذ من وقته ما لا يقل عن نصف ساعة ان كان حريصا على انجاز العمل، وهكذا الثالث والرابع، لماذا؟ لماذا يجب ان يبقى صاحب الشان مراقبا فوق رؤوس العمال ليضمن انجاز المهمة؟ لماذا لا يحرص العامل على عمله بارادته وبضميره وبرقيبه الذاتي؟.
هذا بالنسبة الى العامل، اما الموظفين والمعلمين والاساتذة والمهندسين والمدراء العامين ووكلاء الوزراء والوزارء فصاعدا، فانهم كذلك لا يحرصون على انجاز عملهم الا بالرقيب المادي.
جرب، مرة، ان تحضر عند جهاز تسجيل حضور الدوام في دائرة من الدوائر او في وزارة من الوزارات، هذا طبعا اذا كان مثل هذا الجهاز منصوبا في الدوائر، لتراقب الموظفين عند ساعة انتهاء الدوام، فماذا سترى؟ بالتاكيد فانك سترى عجبا، سترى بان الموظفين قد اصطفوا في طابور طويل اما جهاز التسجيل، ما لا يقل عن ربع ساعة قبل انتهاء الدوام، بانتظار اللحظة الموعودة، ليتركوا الدائرة الى منازلهم، وكانهم يعملون بالسخرة.
فاذا كان عدد الموظفين في الدائرة (100) موظف مثلا، هذا يعني انهم سرقوا من الزمن العام العائد للدولة وللمواطنين قرابة يوم كامل.
ناهيك عن البطالة المقنعة التي تلف اليوم مختلف دوائر الدولة، وكل هذا الفساد الاداري، والذي سببه بالدرجة الاولى ضعف الاحساس بالمسؤولية، فلو كان المواطن يتحسس بالمسؤولية بدرجة عالية لما قبل لنفسه ان يسرق من الوقت العام او مكان غيره ابدا.
لكل ذلك، يجب ان نفعل الرقابة ونشددها، وفي نفس الوقت نثير في نفوسنا جميعا روح الاحساس بالمسؤولية، تارة بالوازع الديني، وكلنا يحفظ قول رسول الله (ص) {ملعون ملعون من ضيع من يعول} وقول امير المؤمنين عليه السلام {ان تضييع المرء ما ولي، وتكلفه ما كفي، لعجز حاضر، وراي متبر} واخرى بالوازع الوطني وثالثة بوازع الضمير وحب العمل، او باي احساس ذاتي آخر، لنحول العراق الى ورشة عمل كبيرة، حقيقية وواقعية لا يقف عندها بندول الساعة لحظة واحدة، علنا نلحق بالعالم المتحضر بعد قرن او اقل من ذلك بقليل.
وان من ابرز مصاديق التحلي بروح المسؤولية، هو ان لا يتنافس المرء على موقع يعرف انه لا يقدر على اعطائه حقه، ولا يزاحم الاخرين على مكان يعلم علم اليقين، هو ليس له، على قاعدة (الرجل المناسب في المكان المناسب) ليتسنم كل ذي قدرة مكانه على اساسها، و {رحم الله امرءا عرف قدر نفسه} كما يقول رسول الله (ص) فـ {قيمة المرء ما يحسنه) على حد قوله (ص) وليس بالموقع او المكان، ابدا، ولذلك فان الذي يتحلى بروح المسؤولية، لا يتنافس على موقع، ليشغله فحسب، وانما يتنافس عليه لكفاءته وقدرته على اداء مهامه، وان مثل هذا التنافس هو المحمود والشريف والشرعي، وهو ما يطلق عليه بالطموح المشروع، واليه اشارت الاية الكريمة {وفي ذلك فلتنافس المتنافسون}.
رابعا: ان مبدا العقوبة والمكافاة، هو الاخر، يتناسب تناسبا طرديا مع نمو روح المسؤولية عن الانسان، ولذلك يجب تفعيل هذا المبدا والقانون في كل مفاصل الدولة العراقية الحديثة، ليشعر المواطن بان لانجازه ونجاحه مكافاة، كما ان لاخفاقه وفشله وعدم نجاحه في انجاز مهمته عقوبة ينالها.
ان من الخطا الكبير، بل من الجريمة بمكان، ان يتساوى الناجح والفاشل في الموقع الواحد، فلقد نهى امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام عن ذلك بقوله الى مالك الاشتر لما ولاه مصر، بقوله {ولا يكونن المحسن والمسئ عندك بمنزلة سواء، فان في ذلك تزهيدا لاهل الاحسان في الاحسان، وتدريبا لاهل الاساءة على الاساءة}.
لقد اوصى علماء الادارة بقانون المكافاة والعقاب، لمن يريد ان يشهد نجاحا في المؤسسة التي يديرها، لان هذا القانون يثير روح المسؤولية في نفوس العمال والموظفين، والذي من دونه لا يمكن ان نشهد نجاحا او انجازا ابدا، ولذلك نجح الغرب وفشلنا، لانه يكافئ الناجح مهما كان اسمه او لونه او دينه او قوميته او توجهه الفكري، اما نحن فاذا اردنا ان نكافئ فنكافئ على اساس الصداقة والقربى والحزبية والانتماءات الدينية والطائفية والقومية، ولا نكافئ على اساس الانجاز والعمل والنجاح، ابدا.
كذلك، فالغرب يعاقب على اساس الفشل، بغض النظر عن هوية الفاشل، اما نحن فنبحث عن كبش فداء لنعاقبه كلما فشلنا.
وما اكبر الفارق بيننا وبينهم.
لقد اخذوا بوصية امير المؤمنين عليه السلام، فتقدموا، اما نحن فلم نعرها اهتماما فتاخرنا، يقول علي بن ابي طالب عليه السلام في عهده الى مالك الاشتر {ثم اعرف لكل امرء منهم ما ابلى، ولا تضمن بلاء امرئ الى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف امرئ الى ان تعظم من بلائه ما كان صغيرا، ولا ضعة امرئ الى ان تستصغر من بلائه ما كان عظيما}.
خامسا: واخيرا، فان تحمل الدولة لاعباء مسؤولياتها ازاء شعبها بالكامل وبالصورة الصحيحة والمنصفة، يزيد من اشاعة روح المسؤولية عند مواطنيها، الذين سيشعرون بانهم مدينون للدولة التي تحتضنهم، خاصة في ساعة الشدة.
ان الدولة التي لا تقوم باعباء المسؤولية ازاء المواطنين، انما تخلق السبب، بل تضخمه لوأد روح المسؤولية، فاذا كانت الدولة لا ابالية، فكيف بالمواطن، وقديما قيل {اذا كان رب البيت بالدف ناقرا، فشيمة اهل البيت كلهم الرقص}.
لذلك نرى كيف ان الدولة في الغرب وفي البلدان المتحضرة والمتقدمة، تفعل كل ما بوسعها من اجل انجاز المهام التي تقع على عاتقها، فلا تقصر ازاء مواطنيها ابدا، ولذلك نرى كل هذه الروح المسؤولة التي يتحلى بها المواطنون في مثل هذه البلدان.
اكثر من هذا، فانك عندما تزور او تراجع متجرا او محلا او مؤسسة، حكومية كانت ام اهلية، فسترى الموظف او العامل شاخصا امامك والسؤال الذي يقفز فورا من بين شفتيه (كيف لي ان اساعدك) وكانه مستعد لتقديم الخدمة اللازمة للزبائن لتسهيل امورهم، فشعارهم (راحة الزبون اولا) و (الزبون على حق دائما) اما في بلداننا، فان شعار الموظف، ان لم نقل الدولة بكاملها، وللاسف الشديد (كيف اقدر ان اعرقل معاملتك) و (الموظف على حق دائما وابدا) وكأن الدولة تاسست او قامت من اجل عرقلة تقدم الحياة، ولذلك فان روح المسؤولية مشاعة عندهم، اما عندنا فالهرب من المسؤولية شعار الجميع وواقعهم.
19 كانون الثاني 2009
يتبع