حوار الاديان..أسسه وأدواته
نــزار حيدر
نص الورقة المساهمة في الندوة الفكرية التي عقدها مركز الامام المهدي (عج) الثقافي في محافظة واسط بالعراق، لمناسبة مولد السيد المسيح (ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين
ايها الحضور الكريم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يسعدني ويشرفني ان اشارككم ندوتكم الفكرية هذه، وان من خلال هذه الورقة المتواضعة، لاساهم في البحث حول عنوانها، والذي يعد اليوم واحد من اهم العناوين الفكرية والحضارية التي تشغل بال البشرية وتاخذ من وقت وجهد المفكرين والباحثين والمعنيين من الحريصين على مستقبل البشرية وسمعة الاديان، بعد موجة العنف والكراهية التي اجتاحت العالم، بسبب السياسات الخاطئة التي تمارسها (الدول الكبرى) ضد شعوب الدول الضعيفة والنامية، من جانب، وبسبب التطرف الذي انتج الارهاب الاعمى، الذي طل براسه هذه المرة باسم (الاسلام) وللاسف الشديد، والاسلام الحنيف منه براء، براءة الذئب من دم يوسف.
ايتها الاخوات المكرمات
ايها الاخوة الكرام
لقد حدد القران الكريم فلسفة التنوع والتعدد في الخلق، بالتعارف، اذ قال عز من قائل في الاية (13) من سورة الحجرات {يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، ان اكرمكم عند الله اتقاكم، ان الله عليم خبير}.
والتعارف هذا لا يتحقق قبل الحوار، والحوار لا يتحقق قبل الاعتراف المتبادل بين المتحاورين، والمبني على اساس منظومة القيم الانسانية التي تقف على راسها احترام الراي والراي الاخر، والابتعاد عن الاحكام المسبقة، والاقلاع عن التكفير، والتسلح بقوة المنطق ونبذ منطق القوة، واستحضار المصالح الانسانية العليا وعدم التخندق خلف التعصب الاعمى، بالاضافة الى الانفتاح والتحلي بمكارم الاخلاق التي تدفع بالمتحاور الى الانصياع للحق والتنازل عن متبنياته كلما اقنعته حجج الاخر وادلته وبراهينه، والى هذا المعنى اشار القران الكريم بقوله على لسان رسول الاسلام محمد بن عبد الله (ص) وهو يدعو غير المسلمين الى الحوار {قل من يرزقكم من السماوات والارض قل الله وانا او اياكم لعلى هدى او في ضلال مبين} وهو القول المبني على طريق الانصاف، كما يقول المفسرون.
ان للحوار شروطا ينبغي استحضارها لننتظر نتائج ايجابية وفاعلة، ولعل من ابرزها:
اولا: ان يكون الحوار مفهوما استراتيجيا وليس تكتيكيا، لانه طريق طويل لا يمكن انتظار نتائجه من خلال جلسة حوار واحدة او اثنتين، ولذلك فان كان الحوار في ذهنية المتحاورين، مفهوما استراتيجيا وخيارا في كل الحالات، فسيصبرون عليه لحين الوصول الى نقطة البدء باقتطاف ثماره، اما اذا كان عندهم مفهوما تكتيكيا، يلجأ اليه الطرفان عند الشعور بالضعف او الانحسار او ما الى ذلك، فانه بالتاكيد سوف لن يكون مثمرا ابدا، لانه، والحال هذه، يتوقف عند منتصف الطريق لحظة ان يتغير ميزان القوى وينقلب من احدهما لصالح الاخر.
ثانيا: ان لا ياتي الحوار كمبادرة من قبل الانظمة والحكومات مهما كانت هويتها، لان لها عادة اجندات سياسية معينة تسعى لتحقيقها من خلال توظيف الحوار، بل من خلال توظيف الدين، وهذا امر خطير على الدين وعلى الحوار على حد سواء.
فلقد راينا، مثلا، كيف ان المملكة العربية السعودية حاولت خلال الاشهر القليلة الماضية، توظيف ما اسمته بمؤتمري حوار الاديان واللذان انعقدا في العاصمة الاسبانية (مدريد) ونيويورك بالولايات المتحدة الاميركية، على التوالي، من اجل تخفيف حدة التوتر التي شهدتها العلاقات السعودية مع المجتمع الدولي بعد ان ثبت تورطها بالارهاب العالمي، ان بفتاوى التكفير او بانتاج الارهابيين في مدارس فقهاء التكفير وتوزيعهم على العالم، فهي، بهذا المعنى، لم تكن تسعى او تهتم بابعاد شبهة العنف والارهاب عن الاسلام، وتصحيح المفهوم ازاء الدين وتنقيته من الشوائب، وانما لتلميع الصورة عن النظام الحاكم في الجزيرة العربية في ذهن المجتمع الدولي وشعوب العالم، واعادته الى موقعه السابق فقط.
ان الحوار بين الاديان شئ مقدس ينبغي ان لا يلوث باجندات سياسية باي شكل من الاشكال، ليبقى الحوار محافظا على بريقه واهميته وحيويته، بما يخدم العالم والبشرية والمجتمع الدولي على حد سواء، فهو، بهذا المعنى، آخر خندق دفاعي تلجا اليه البشرية، قبل الانهيار الشامل، لا سامح الله.
ومن هذا المنطلق، اعتقد ان من المهم بمكان ان تبادر مؤسسات المجتمع المدني عندنا، خاصة المرجعية الدينية والحوزات العلمية والجامعات الرزينة ومراكز ومعاهد الابحاث والتدريس، والكليات المتخصصة والاساتذة والمفكرين المتنورين الى الاهتمام والسعي لاطلاق مبادرات الحوار بين الاديان، لاخذ المبادرة من الانظمة والحكومات، وتاليا لانقاذ المشروع الحضاري قبل تسييسه وزجه في اتون الحروب السياسية، التي هي، في حقيقة امرها، جزء من المشكلة التي تسببت في الازمة القائمة بين الاديان، جراء توظيف كل واحدة منها (الدين) لتحشيد الراي العام خلف اجنداتها السياسية، وتاليا الحربية.
لقد بادرت الكثير من المؤسسات المرموقة، هنا في الولايات المتحدة الاميركية، والعديد من الشخصيات الفكرية والثقافية المعروفة بالحيادية والاكاديمية والحرص على مستقبل البشرية و(الدين) كمظلة تحتمي بها البشرية، لاطلاق مثل هذه المبادرات في الحوار، فاسست المراكز البحثية والمقاعد الدراسية، كما نظمت الندوات والمؤتمرات وورش العمل بهذا الصدد، فلماذا لا تبادر مؤسساتنا وعلماءنا ومفكرينا وفقهاءنا الى مثل ذلك؟ لماذا تبقى المبادرة محصورة بيد غيرهم، وكانهم غير معنيين بمثل هذا الحوار؟ او انهم غير حريصين على سلامة البشرية؟ او انهم لا يبالون بسمعة الدين؟ في الوقت الذي نعرف فيه جيدا، باننا اقرب من غيرنا لتحمل مثل هذه المسؤولية من منطلق مفهوم الاية القرانية الكريمة {وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} وان الشهادة كما هو معروف وواضح لا تتحقق الا بالحضور والحوار واللقاء، والا فاية شهادة هذه التي نصبو اليها كمفهوم قراني وحضاري اذا جلسنا في بيوتنا وغلقنا الابواب على انفسنا ولم نحاور الاخر ولم نلتق به؟ ولم نسمع منه او يسمع منا؟.
كذلك، فلقد تحدث الله تعالى عن القران الكريم فوصفه بالهدى ليس للمسلمين او المؤمنين فحسب، وانما للناس كافة، كما في قوله عز من قائل {شهر رمضان الذي انزل فيه القران هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} او كما في قوله تعالى {هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين} وفي قوله عز وجل {هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا انما هو اله واحد وليذكر اولوا الالباب} ما يحملنا مسؤولية الحضور والحوار لتبيين آياته وهداه للناس، والا فسنكون المصداق لقوله عز وجل {واذ اخذ الله ميثاق الذين اوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون}.
وفي الاية (224) من سورة البقرة، والتي يقول فيها رب العزة{ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم ان تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم}مفهوم حضاري عظيم يفرض علينا الحضور العالمي من اجل الاصلاح، اصلاح البشرية والناس، ولا يكون ذلك الا من خلال الحوار والحوار وحده، على اعتبار ان القران الكريم دعانا الى الجدال بالتي هي احسن، كما في قوله تعالى {ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين}.
ثالثا: وان من الشروط التي يمكن عدها بمثابة حجر الزاوية في الحوار بين الاديان، هو التحلي بالشجاعة وعدم الخوف، ليقبل المتحاورون بالحق كلما حصحص لهم في آية او دليل او برهان، فلا تاخذهم العزة بالاثم، فيتشبث كل منهم بموقعه لا يتزحزح عنه، ما يعني فقدان الحوار لجوهره ومحتواه وهدفه الاسمى، المتمثل بقبول التغيير ما استطعنا الى ذلك سبيلا، وان جاء احيانا على حساب بعض المتبنيات التي يتصورها هذا الطرف او ذاك انها من المسلمات التي ينبغي ان لا تتغير ابدا، او انها من المقدسات التي يجب ان لا يمسها عامل التغيير.
لقد تحدث القران الكريم عن هذه الحقائق في عدة آيات كريمات، منها قوله عز وجل {يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ان الله لا يهدي القوم الكافرين} وقوله عز وجل {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون احدا الا الله وكفى بالله حسيبا}.
طبعا من دون ان يعني ذلك سعي اي من الطرفين لالغاء الاخر، ابدا، فحوار الالغاء فاشل سلفا، كما نعرف.
ايتها الاخوات المكرمات
ايها الاخوة الكرام
لنعمل جاهدين من اجل نشر ثقافة الحوار، حوار الدليل والمنطق والبرهان، حوار الحكمة وقول التي هي احسن واقوم، لنترك بصماتنا الايجابية الفاعلة في هذا العالم الذي يغلي اليوم كالمرجل، ولتكن ذكرى ولادة السيد المسيح (ع) الذي جاهد كبيقة انبياء الله ورسله من اجل اسعاد البشرية ونشر الامن والطمانينة والسلام في ربوع العالم، منطلقا مشتركا لكل المؤمنين بدين.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخـــوكم
نــــــــزار حيدر
واشنطن في:
ذو الحجة 1429 هـ.ق
كانون الاول (ديسمبر) 2008 م