فعندما وقع النقيب على الاتفاقية الاولى عام 1922 واراد ان يمررها بالمجلس التاسيسي الذي تم (انتخابه) في العام 1924، اي بعد سنتين من توقيع الحكومة العراقية عليها، في تخريج دستوري صوري مكشوف، وبسبب تفجر الموقف الرافض لها والذي قادته المرجعية الدينية في المدن المقدسة كربلاء والنجف والكاظمية، عين النقيب، وبالتشاور مع البريطانيين، السيد عبد المحسن السعدون وزيرا للداخلية، والذي نفذ ابشع عمليات بطش وتنكيل بالقادة الوطنيين وبابناء الشعب العراقي وعلى راسهم المرجعية الدينية التي نفاها الى الخارج ليبعدها عن ساحة النضال والجهاد من اجل عز العراق واستقلاله ورفعته وكرامته وسيادته، كما اقدم على حل الاحزاب السياسية واغلاق الصحف ليضمن تمريرا هادئا للاتفاقية.
ومع كل هذه الاجراءات الاحترازية التعسفية، اخفقت الحكومة التي ظلت تتقلب بين احضان الساسة العراقيين وبدعم وتاييد من البلاط وبتنسيق تام مع المعتمد السامي البريطاني، بتمرير الاتفاقية في المجلس التاسيسي، عندها تدخل المعتمد السامي البريطاني شخصيا بالقضية فتلفن الى الملك فيصل واخبره بانه سيقصد البلاط عصر ذلك اليوم لامر هام، واعد مذكرة خطيرة يطلب فيها اصدار تشريع بحل المجلس التاسيسي، واصدار امر باحتلال بناية المجلس وما يحاط بها، وبعد حوارات ونقاشات طويلة دارت بين المعتمد السامي والملك والحفنة الصغيرة من الزعماء الذين كانوا يتهافتون على السلطة، اجتمع المجلس التاسيسي واقر الاتفاقية تحت حراب التهديد والوعيد والترغيب والترهيب.
ومن الظريف في الامر ان ممثلي (الاقلية) في العملية السياسية ممن كانوا يتهافتون على السلطة من خلال التقرب الى البريطانيين، ما كانوا ليعارضوا شيئا من منطلق الحرص على العراق وسيادته واستقلاله، وانما فقط للضغط على البريطانيين لاستبدال غرمائهم في السلطة، فمثلا، عندما تحالف حزب الاخاء الوطني بزعامة ياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني وحكمت سليمان مع الحزب الوطني بزعامة جعفر ابو التمن، ضد اتفاقية العام 1930، للحيلولة دون تمريرها، انقلب الحزب على موقفه الرافض بمجرد ان شكل احد اقطابه وهو الكيلاني، حكومته في العام 1933 والتي اشترك فيها كذلك الهاشمي، فايد الاتفاقية ودافع عنها حتى آخر نفس، كما يقول العراقيون في امثالهم المعروفة.
ذات الحال ينطبق على بقية ممثلي (الاقلية) في العملية السياسية، مثل ناجي شوكت وجميل المدفعي وعلي جودت الايوبي وحمدي الباجه جي ومزاحم الباجه جي وطالب النقيب الذي عرف بين اقرانه بالمتلون لكثرة ما يتقلب في مواقفه السياسية، وهو بالمناسبة صاحب نظرية فصل ولاية البصرة عن العراق وجعلها بلدا مستقلا لوحدها، المشروع الذي كاد ان يتحقق لولا معارضة البريطانيين الذين اضطروا لابعاده عن العراق ونفيه الى الخارج ليقنع بالاقلاع عن مشروعه التقسيمي هذا.
لقد عارض رؤساء الوزارات اتفاقية العام 1930 التي وقعها نوري السعيد مع البريطانيين، واعتبروها اغلالا اضيفت الى الاغلال التي كان يئن منها العراق في ظل الانتداب البريطاني، فقد قال عنها مثلا ياسين الهاشمي (بل زادت، المعاهدة، في اغلاله) فيما قال عنها توفيق السويدي (جاءت، الاتفاقية، هادمة لكل الجهود التي صرفت في سبيل تخفيف وطاة المعاهدات والاتفاقيات السابقة) وقال عنها الكيلاني (انها استبدلت الانتداب الوقتي بالاحتلال الدائم) وقال عنها حكمت سليمان (انها، الاتفاقية، تتضمن الاحتلال الابدي) اما حمدي الباجه جي فقد قال عنها (انها، المعاهدة، تجعل كابوس الاستعمار البريطاني دائما مستمرا) فيما كتب عنها ناجي السويدي سلسلة مطولة من المقالات (العلمية) في نقد المعاهدة وذيولها.
مع كل هذه المواقف الرافضة بقوة للاتفاقية، الا ان اصحابها انقلبوا على مواقفهم في اول استيزار حصلوا عليه من البريطانيين، ما يعني ان مواقف هؤلاء لم تكن وطنية بالمعنى الحقيقي للكلمة، لانها لم تنطلق من حرص على العراق واستقلاله وسيادته ومستقبله، وانما كانت مواقفهم محاولات مستميتة للضغط على البريطانيين وابتزازهم من اجل الحصول على وزارة او ما يشابهها، ولذلك كانوا ينقلبون على انفسهم (180) درجة حال الحصول على ما يريدون من (الام الحنون) على حد وصف احدهم للاحتلال البريطاني آنئذ.
اما اليوم، فلم نلحظ ان احدا من العراقيين منع من مناقشة الاتفاقية وبنودها، كما لم نسمع ان مواطنا اعتقل او اعدم رميا بالرصاص او ابعد عن وطنه او فرضت عليه الاقامة الجبرية، لانه ناقش الاتفاقية، او عارضها، بل على العكس من ذلك، فلقد انشغل العراقيون بمناقشة بنود الاتفاقية، حقيقتها وتخمينها، صدقها وكذبها، من دون حسيب او رقيب، فقد ناقشها المواطن في الشارع والمدرسة والمعمل والسوق، ومن على صفحات الجرائد وفي الندوات المتلفزة وفي مواقع الانترنيت، وما اكثرها، من دون ان يعترض عليه احد.
لقد تظاهر من تظاهر، وكتب من كتب، وتحدث من تحدث، واتهم من اتهم، واثار الضوضاء في جلسة البرلمان من اثارها، من دون ان يعترضه شرطي الامن او جلاوزة الحكومة او المخبرين السريين، فيما لم نلحظ ان دبابات الحكومة حاصرت البرلمان للضغط عليه او ارهابه.
اما المرجعية الدينية، التي اثبتت مرة اخرى انها صمام الامان الحقيقي الذي بامكان المواطن العراقي التعويل عليه لصيانة حقوقه وسيادة واستقلال بلاده، فقد كان لها الدور الاكبر في مراقبة سير المفاوضات، تعضيدا وترشيدا، بما ضمن اكبر قدر ممكن من حقوق العراقيين، حتى تم التوصل الى الاتفاق المبدئي بين الطرفين العراقي والاميركي.
كل هذا يشير الى حقيقة في غاية الاهمية، الا وهي، ان السبب الحقيقي الذي خلق هذا الجو الايجابي في النقاش والحوار وتحمل المسؤولية، مع غياب كامل لمظاهر محاكم التفتيش والقمع والارهاب والدوريات المسلحة، هو الديمقراطية التي صنعها النظام السياسي الجديد القائم على اساس حكم الاغلبية، والتي تستند في سلطتها الى الشعب من دون (الاحتلال) والى الداخل من دون (قوى الخارج) ولذلك لم تنفرد ثلة معينة في مناقشة الاتفاقية، كما لم ينفرد طاغوت او مستبد في التوقيع عليها، وان الذي شارك في المناقشات هو كل الشعب العراقي، كل على طريقته، بل ان ابرز شرط وضعته المرجعية الدينية للقبول بالاتفاقية هو ان تمرر في البرلمان باجماع وطني، اي بقبول كل شرائح المجتمع العراقي من دون استغفال او تجاهل احد، ولهذا فان الاتفاقيات في العراق الجديد لا تمرر على طريقة (سلق بيض) وانما اخذت كل هذا الوقت الطويل من الزمن لحين التوصل الى الصيغ المقبولة من قبل الجميع، فديمقراطية الاغلبية غير مستعجلة من امرها، لان وجودها في السلطة غير مرتبط بالاتفاقية، وهي لا يمكن تخييرها بين السلطة او الاتفاقية، كما كانت تفعل بريطانيا مع الاقلية الحاكمة ابان عهد الاحتلال الاول والثاني.
كما ان مثل هذه الاتفاقيات ستخلو من اية نصوص او وثائق او بروتوكولات سرية، اذ لا مجال البتة لاخفاء شئ، عندما تكون ممددة على المشرحة امام الجميع، فكل الامور تناقش تحت اشعة الشمس، ولا مجال لامر يدبر بليل او خلف الكواليس.
لكل ذلك، نصر على النظام الديمقراطي الذي يعتمد الشراكة الحقيقية بين مختلف شرائح المجتمع العراقي، اما في الانظمة الديكتاتورية، فالذي يوقع واحد، اما بقية اعضاء البرلمان (الصوري) فمصفقون ليس اكثر، لا يعرفون لماذا يوافقون ولماذا يرفضون، وكلنا يتذكر صورة البرلمان العراقي عهد النظام البائد، عندما كان يدعى في كل مرة للتصديق على قرارات مجلس قيادة الثورة، تلك التي فرضتها على الطاغية الولايات المتحدة الاميركية، وهو لم يطلع لا على الموجز ولا على التفاصيل.
في العراق الجديد، تشترك كل مكونات المجتمع العراقي في تمرير مثل هذه الاتفاقيات الاستراتيجية، لان حكم الاكثرية لا يعني ابدا الغاء دور الاقلية، مهما كان عنوانها.
من كل ما تقدم، يمكن تسجيل المقارنات التالية:
اولا: هذه الاتفاقية يوقعها العراقيون بكل فئاتهم، فلم يستفرد احد بالتوقيع عليها ليجني ثمرة زائلة على حساب المصلحة العراقية العامة.
فيما مضى كان الساسة يبيعون الوطن ويشترون السلطة، اما اليوم فلم يعد الامر كذلك، فالسلطة من اجل الوطن وليس العكس.
كانوا يوقعون في اطار معادلة (السلطة مقابل الانتداب) ومن ثم (السلطة مقابل النفط) اما اليوم فـ (السلطة للوطن وبلا مقابل) لان الوطن لا يباع ولا يشترى في سوق المفاوضات والمفاوضين.
فيما مضى كان فرد واحد فقط هو الذي يوقع على اخطر الاتفاقيات، اما اليوم فالعراق هو الذي يوقع او يرفض.
وفيما مضى كان من يوقع سلاحه الارهاب والمجازر والعنف والتعسف وكل ادوات القمع والقهر، اما الذي يوقع اليوم فسلاحه الاجماع الوطني والدستور والشرعية الدولية، لانه لا يوقع من اجل السلطة وانما من اجل البلد، استقلاله وسيادته والمحافظة على خيراته وعلى مستقبل اجياله.
من يوقع اليوم، مرصود من قبل الاحزاب والزعماء والقادة والاعلام الحر ومنظمات المجتمع المدني والكتل البرلمانية، ومن رجل الشارع الذي يراقب ويحاسب من دون حدود، وهذه هي ثمار الديمقراطية التي ضحى من اجلها العراقيون، ولذلك عليهم ان يعضوا عليها بنواجذهم فلا يفرطوا بها، او يتركوا لصوص السلطة يسرقونها او ينقلبوا عليها فيعيدوا العراق الى المربع الاول.
ثانيا: انما يوقع من يوقع اليوم على الاتفاقية ليس حبا بها او بالواقع الذي يمر به العراق، وانما بغضا للحالة وولظرف السئ الذي وضع فيه الطاغية المقبور العراق وشعبه الابي، والذي فرض عليهم هذا الظرف القاسي، ولذلك انما يقبل بالاتفاقية من يقبلها، من باب دفع ما هو اشد ضررا بما هو اقل ضررا، اي دفع الافسد بالفاسد، ولذلك حاول المفاوض العراقي ان يصل الى نتيجة فيها اقل الضرر على العراق، وهذا هو، عادة، مبنى العقلاء في التعامل مع الاشياء والواقع المر الذي يفرض عليهم، لان البديل هو استمرار (الاحتلال) مشفوعا بالقرارات الدولية، كما اسلفنا سابقا.
اخيرا، علينا ان نتذكر بان الاتفاقية ليست آية منزلة من السماء لا يمكن المساس بها، فللعراقيين الحق في اعادة النظر بها، كما نصت على ذلك احدى بنود الاتفاقية، المهم هو ان نتجاوز المحنة باقل الخسائر، ولم يبق امامنا الا اسابيع قبل ان ينتهي تفويض الامم المتحدة.
كما يلزم ان نتذكر بان ما جرى الاتفاق عليه هو اتفاقية استراتيجية سيستفيد منها العراق كثيرا، وهي ليست كما يسميها البعض بالاتفاقية الامنية لارهاب العراقيين وارعابهم من التسمية، لدفعهم الى عدم التفكير الصحيح بها، انها اتفاقية استراتيجية تحمل بين طياتها الكثير من المصالح الاستراتيجية للعراق والعراقيين.
اتمنى على كل العراقيين ان يقراوا النصوص بتاني فلا يستعجلوا الحكم، فيخطاوا، ولنتذكر بان العالم اليوم محكوم باكثر من (130) اتفاقية من هذا النوع بين سرية وعلنية، لم يعترض عليها احد او يسعى للاطلاع عليها كما حصل لهذه الاتفاقية، وهي الافضل بين كل هذه الاتفاقيات، وكان الجميع قد شمر عن ساعديه وبذل كل غال ونفيس من اجل ان يفشل العراقيون، ولا يتمتعوا بصداقة جدية او بعلاقة استراتيجية مع اي بلد من بلدان العالم، فضلا عن الولايات المتحدة الاميركية.
ان كل دولة نامية في هذا العالم، وكل دولة تعرضت لظروف قاسية كالتي مر بها العراق خلال العقود الاخيرة، ما كان لها ان تتطور من دون اتفاقيات استراتيجية كالتي يجري بحثها في العراق.
فهذه اوربا بعد الحرب الثانية، والتي انقذها مشروع مارشال، وتلك اليابان بعد الحرب والمانيا في نفس الفترة الزمنية، وهذه دول الخليج وتلك دول شرق آسيا، وغيرها الكثير الكثير جدا، ما كان لها ان تعيد بناء نفسها لولا قبولها باتفاقيات استراتيجية تارة مع الدولة المنتصرة، وتارة اخرى مع الدولة الكبري في العالم، لماذا؟ لان التمنية مصالح مشتركة، والبناء مصالح مشتركة، فماذا عسى العراق الذي ورطه النظام الشمولي البائد بحروب عبثية ومشاكل لا تعد ولا تحصى مع المجتمع الدولي، ان يفعل، الا ان يفكر بتاني فيقدم المصالح العليا على اية مصلحة اخرى، ويدفع الافسد بالفاسد، ليتجاوز المحنة والظرف الاستثنائي الخطير؟.
ان التحرر من مخلفات الماضي، والانعتاق من ربقة الاحتلال طريقه (الاتفاقيات) ولنا في تجارب دول العالم، ومنها كل الدول العربية، التي تعرضت للاحتلال، ان البريطاني او الفرنسي او الايطالي او غيرها، خير مثال، فكل دولة محتلة وجدت طريق التحرر يمر عبر بوابة الاتفاقيات، لا محال، وفي العراق الجديد، للشعب فقط حق الاختيار في الرفض او القبول او التعديل، اذ لم يعد في مثل هذه الاتفاقيات ما يخفى عليه او يخجل او يخاف منه، فرايه حر لا يتعرض للابتزاز من اي احد، كائن من كان، فهو لم يعد خائفا من شئ كما هو حال بقية شعول المنطقة والعالم العربي بشكل عام.
وليثق بعضنا بالبعض الاخر، فلا نتهم او نتجنى او نخون احدا لمجرد انه ابدى رايا او تحدث بفكرة، وليكن الاصل في التعامل مع بعضنا البعض الاخر هو الحرص على الوطن ما لم يثبت العكس، وعلينا ان نقلع عن طريقة المزايدات الوطنية، والازدواجية في المواقف، ولنقدم الشكر لكل من يعمل صالحا، كالفريق العراقي المفاوض الذي اثبت جدارة وانتزع حقوق في ظل ظروف قاسية، لم يحقق مثلها احد غيره، لا في العراق ولا في غير العراق.
ولنضع في الحسبان الظروف السياسية والامنية القاسية جدا التي يمر بها العراق اليوم، والتي ورثها من النظام المقبور الذي ادخل العراق في متاهات لها اول وليس لها آخر، فهو الاول والاخير الذي يتحمل مسؤولية كل انتهاك للسيادة تعرض له العراق خلال السنوات الاربعين الماضية.
ولنتحلى بالانصاف عند تقييم الادوار، وصدق رسول الله (ص) الذي قال {من لا انصاف له، لا دين له} وليضع احدنا نفسه مكان الاخر عندما يريد تقييم اداءه، على قاعدة قول امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام في وصيته لولده الامام الحسن المجتبى السبط { يا بني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك}.
22 تشرين الثاني 2008[/b][/color]