بقلم : محمد خليل الحوري
هذه صورة من صور الفساد المالي والإداري المستشري في الكثير من الشركات والمؤسسات الكبرى ، والتي عانى ويعاني منها الكثيرون ، ممن لا حول لهم ولا واسطة ، ونتيجة للتمييز والطائفية وربما العنصرية ، التي أوقعتهم في براثن بعض المتنفذون والمهيمنون على الإدارات ودوائر التوظيف في تلك المؤسسات والشركات ، والذين أعطوا ضمائرهم إجازة مفتوحة وذلك لضعف إيمانهم وغياب وازعهم الديني .
وراحوا يتصرفون ويتحكمون في مصير الناس بما تمليه عليهم نفوسهم المريضة ومصالحهم ومنافعهم الشخصية ، فظلموا من ظلموا وتسببوا في حرمان الكثيرين من الحصول على حقوقهم المشروعة ، أو الحؤول دون تحقيق طموحاتهم والحصول على الترقيات في وظائفهم ، أو ربما حرموا البعض من الحصول على وظيفة مناسبة لهم ، فضلا عن تماديهم في توظيف وترقية بني جلدتهم ومن يجنون من وراءهم مصالح عامة ، ما إضطر الكثيرون لترك وظائفهم أو إلى الركون إلى مشروع التقاعد المبكر نتيجة للضغوط والمضايقات والتهميش والتجاهل لهم .
و مشروع التقاعد المبكر الذي إخترعوه في بعض الشركات الكبرى هو في واقع الأمر يصب في خدمة هؤلاء المتنفذون والمسيطرون على زمام الأمور في تلك الشركات - في ظل البطالة وعدم توفر الشواغر - لأهداف أهمها :-
أولا : التخلص من قدامى الموظفين أو الذين لا يرغبون في تواجدهم في تلك الشركات ، بسبب التمييز والطائفية وربما العنصرية ، وليتسنى لهم جلب بني جلدتهم ومن يحصدون من وراءهم مصالح ومنافع شخصية ليحلوا بدلا منهم .
ثانيا : يلجأ البعض من هؤلاء المتنفذون إلى إسلوب الإختلاس المالي أو الحصول على المكاسب المالية بطرق ملتوية وغير مشروعة ، وعندما يكتشف أمرهم تتم لفلفة القضية ، ومساعدتهم للإنضمام إلى مشروع التقاعد المبكر ، وبالتالي يحصلون على مئات الآلاف من الدنانير وراتبا تقاعديا ضخما ، ومن ثم يلتحقون بوظيفة أخرى وبراتب يساوي ضعف راتبهم السابق ، أو يفتحون لهم مشاريع تجارية ضخمة تدر عليهم ملايين الدنانير شهريا .
وهذا ليس إتهام من نسج الخيال ، ولكنه واقع كثيرا ما يحدث وكثيرا ما نسمع بأن المدير الفلاني أو المديرة الفلانية ، قد ضبطوهم متلبسين بالجرم المشهود ، وأجبروا على التقاعد المبكر وبعد فترة نسمع أو نرى ذلك المدير أوتلك المديرة قد إنتقلوا إلى شركة أخرى أو حتى إلى وزارة من وزارات الدولة .
وهذه صورة من صور الفساد الإداري ، حدثت لأحد الموظفين الذي وصل إلى درجة إشرافية في أحد الشركات الكبرى ، وضايقوه بشتى الوسائل والطرق ، ولم يترك ذلك الموظف بابا إلا وطرقه ، وقابل الكثير من المديرين في شركته لطرح قضيته عليهم ومن ثم حوّل قضيته إلى اللجنة العامة للعمال في شركته ولم يفعلوا له أي شيء يذكر ، و ثم رفعها ثانية إلى نقابة العمال في شركته مع ملف كامل يحوي الوثائق والإثباتات الرسمية والشهادات التي حصل عليها من مجهوده وعلى حسابه الخاص ، ولم يحصل على أية نتيجة أيضا ، مما إضطر للتقاعد مبكرا ، وهو يشعر بمرارة ما ناله من ظلم وإجحاف بحقه ، ولكون كل هؤلاء الذين إستعان بهم لم يفعلوا له شيئا ، وذهبت قضيته أدراج الرياح وهي كما يرويها لنا كالآتي :
( بدأت حياتي العملية وأنا في ريعان الشباب كموظف عادي ، وشاءت الأقدار أن يبتسم الحظ لي وأحصل على ترقية لشغل وظيفة أعلى بعد حوالي ثمانية عشر شهرا ، مما أثار حفيظة وغيرة أقراني وزملائي في الأقسام الأخرى ممن أمضوا سنوات طويلة ولم يحصلوا على أية ترقية ، وبعد ثلاث سنوات حصلت على ترقية أخرى لشغل وظيفة إشرافية وبدرجة أعلى .
ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان ، فلقد كان هناك مدير أجنبي يخطط للبقاء مدة أطول مع هذه الشركة ، لكون عقده قد شارف على الإنتهاء ، فقد إقترح على إدارة الشركة دمج قسمين معا في قسم واحد ، ونال ذلك الإقتراح إعجاب الإدارة فوافقت على إقتراحه ، وتحقق له ما كان يتمناه وتم دمج القسمين ، ولكون توزيع الدرجات على السلم الوظيفي في القسمين كان مختلفا تماما فلقد تم تصنيفي في مركز أقل ولكن على نفس درجتي .
وتغيرت أمور وإستجدت أمور ، ولم يكن هناك خيار لي سوى الرضوخ والقبول بالأمر الواقع أو الإستقالة من تلك الشركة ، ولأنه لم يتسن لي الحصول على عمل أخر داخل أو خارج الشركة فقد قبلت على مضض بما حصل لي ورضيت بالواقع المر وتكيفت مع هذا الوضع .
ولكن بما إن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن ، فقد حدثت في السنوات الأخيرة تطورات وتغيرات في تلك الشركة ، وجاءت إدارة جديدة لذلك القسم ، فقامت بتصفيات عدوانية وتصفية حسابات في صفوف قدامى الموظفين الذين يشغلون وظائف إشرافية ، وأرادوا تحويلهم إلى موظفين عاديين مما دفعهم للتقاعد المبكر بعد خدمة تلك الشركة لسنوات طويلة .
ولم يكن حالي بأحسن من حالهم إذ تم تحويلي إلى موظف عادي مع العلم بأنني كنت أشغل وظيفة إشرافية لمدة تفوق العشرين سنة ودرجتي أعلى منهم ، وعوملت كما يعامل الموظفون المستجدون ، وبالفعل لقد تم ترقية بعض هؤلاء الموظفين المستجدين لكونهم من بني جلدتهم ، وظلت درجتي على ما هي عليه ، ولو كان بيدهم لأنقصوا درجتي لأن القوانين تحاصرهم ، وكل ما تم فعله من قبلهم جاء نتيجة لأهواء شخصية وأحقاد طائفية وعنصرية .
وكان من المفروض أن تتم ترقيتي إلى مركز ودرجة أعلى ، لكوني قد شغلت هذا المركز لسنوات طويلة بالوكالة ولكن على فترات متقطعة ، فكيف يمكن تفسير ذلك التصرف الأهوج ؟! وما مدى التأثير النفسي والمعنوي على أي شخص يتعرض لمثل هذا الهجوم الحاقد ؟! وكيف يفسر المدافعون عن حقوق الإنسان وأطباء النفس وعلماء الإجتماع مثل تلك التصرفات الهوجاء ؟؟!!
وما مدى تأثيرها على ذلك الشخص المظلوم الذي سلبت منه حقوقه ؟! وليس من المستبعد أن تحدث أو حدثت للكثيرين في مثل تلك الشركات والمؤسسات .
وليكن في العلم أنني لم أقف مكتوف اليدين ، بل تحركت على أعلى مستوى ، وقابلت العديد من المديرين والمسئولين قي تلك الشركة ورفعت القضية إلى جهات عليا في الشركة ، ولكن لا حياة لمن تنادي ، كلها وعود كاذبة لم أحصل منها إلاّ على السراب ، وإحدى كبار المديرين في الشركة قالت لي بالحرف الواحد :- ( إنه أمر عادي ما دام راتبك لم يتغير ، فقلت لها : - الحالة النفسية والمعنوية أهم كثيرا من المال - (هكذا يفكر مثل هؤلاء المتنفذون ومنطقهم ينم عن إستهتار وعدم إكتراث بمظلومية الأخرين ) وأخيرا لم تجد تلك قضيتي حلا منصفا وعادلا لي وأسدل عليها الستار وأصبحت في خبر كان .
إن مثل تلك القضية وغيرها من القضايا تحدث في الكثير من الشركات والمؤسسات الكبرى على مرأى ومسمع من كبار المسئولين فيها ، ويكون الموظف المسكين ضحية لأهواء وأمزجة البعض ممن تجرد من ضميره ووازعه الديني ، وراح يتصرف بما تمليه عليه منافعه ومصالحه الشخصية .
هذه مجرد صورة واحدة من صور الفساد الإداري ، والتي تنحو نحو إسلوب ( الإرهاب الإداري ) ضمن عشرات بل مئات من صور الفساد التي تنخر في مفاصل تلك الشركات والمؤسسات الكبرى ، ولا تجد من يتدخل بقوة من كبار المسئولون ، ليضع حدا لما يعانيه عامة الناس من تمييز وطائفية وظلم وإجحاف بحقهم ، وحرمانهم من حقوقهم المشروعة ، مما يضاعف من صور الفساد والتعسف ويوسع هوة الأحقاد والمشاحنات بين الناس ، ويجعل الأوضاع تسير من سيء إلى أسوأ ، وتتعقد الأمور وقد تؤدي إلى عواقب وخيمة لا تحمد عقباها .