العواصف لا ترحمها ولا الهزات السياسية ..!!
بقلم: محمد خليل الحوري
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) شهد العالم حالة من الفوضى والتوتر، وسادت الصراعات السياسية والعسكرية والانقسامات والتحالفات والمتغيرات الإستراتيجية بين مختلف الدول، فهناك الصراع الروسي- الصيني، والصراع الروسي- الأمريكي، والصراع السياسي- العسكري الذي اجتاح شبه القارة الهندية، مما أدى إلى انقسامها إلى ثلاث دول: الهند, وباكستان الغربية (المعروفة الآن باسم جمهورية باكستان الإسلامية)، وباكستان الشرقية (كانت تعرف باسم إقليم البنغال, والمعروفة الآن باسم بنغلادش أو جمهورية بنغلادش الشعبية).
بدأ الانقسام في شبه القارة الهندية نتيجة لصراعات عرقية ودينية بين المسلمين والهندوس، مما أدى إلى انفصال باكستان عن الهند، وتأسيس جمهورية باكستان الإسلامية بقيادة محمد علي جناح, الذي يطلقون عليه في باكستان (القائد الأعظم) في 14 أغسطس/ آب عام 1947م، وهو نفس العام الذي استقلت فيه الهند، أو ما تعرف بجمهورية الهند. ثم تم انفصال الجزء الشرقي من باكستان نتيجة لثورة شعبية في ذلك الإقليم بقيادة الشيخ مجيب الرحمن (زعيم حزب عوامي ليج) وتأسيس جمهورية بنغلادش عام 1971م. وتفصل بين هاتين الدولتين مسافة 1500 ميل عن بعضهما، حيث جمهورية الهند تقع في وسطهما، وتشمل على الجزء الأكبر من شبه القارة الهندية.
ما هي الأسباب التي أدت إلى انفصال باكستان الشرقية أو ما تعرف به الآن باسم (بنغلادش) عن باكستان الغربية، وكانتا دولة واحدة بعد انفصالهما عن الهند؟
فيما يلي بعض الأسباب التي كان لها دور فاعل ومساعد في تعجيل وحدوث الانفصال، ومن ثم الحصول على الاستقلال, الذي ربما لم يكن في صالح كلتا الدولتين في كافة المجالات. ولكن كانت الظروف والأوضاع السياسية السائدة حينذاك هي التي لعبت دوراً كبيراً وخطيراً في تقرير مصير تلك الدول والشعوب:
أولاً: فشل القادة في باكستان في منح الحرية، وبالتالي فشلوا في المحافظة على الوحدة بين جزئي باكستان المتباعدين عن بعضهما بفاصل جغرافي وصل مداه إلى 1500 ميل.
ثانياً: الصراع الصيني- الروسي، والدور الأميركي الذي ساعد في اضطراب وزعزعة الأوضاع السائدة في منطقة شبه القارة الهندية والمناطق الأخرى من العالم.
ثالثاً: التأثير السلبي الذي تركه الاستعمار البريطاني على الإقليم الشرقي، وكما كان يعرف باسم البنغال، حيث كانت البنغال هي المركز الأول التي بدأت شركة الهند الشرقية (نواة الاستعمار البريطاني) تمارس فيها نشاطاتها على الشواطئ الشرقية لآسيا, فسلبت كل ثرواتها وخيراتها وكنوزها ومصنوعاتها الحريرية, وكل ما فيها من غالٍ ونفيس, ونقلتها على ظهر سفنها وبواخرها إلى بريطانيا ولعدة قرون.
رابعاً: الوعي الجماهيري لشعب البنغال, والتأثر بالأحداث السياسية في العالم، وردود فعل الجماهير فيها. وخير مثال هو ما قام به الشعب البنغالي نتيجة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، حيث تعرضت كافة المصالح البريطانية في بنغلادش إلى مهاجمة الجماهير الغاضبة، والتي كان لها تأثير كبير فيما بعد في حركة النضال الوطني البنغالي.
خامساً: سيطرة الإقطاعيين في كل باكستان بجزأيها على الاقتصاد، وتحكم 22 أسرة على موارد البلاد وثرواتها، وجعل باكستان الشرقية سوقاً لترويج بضائع ومنتجات باكستان الغربية وإهمالها من قبل السلطة المركزية الحاكمة، مما أدى إلى شعور المواطن في إقليم البنغال بالاستعباد والاضطهاد من قبل نظام الماريشال أيوب خان، الذي جاء إلى السلطة إثر انقلاب عسكري.
سادساً: الفاصل الجغرافي الذي يفصل جزئي باكستان، بالإضافة إلى وجود قوميتين ولغتين مختلفتين في هاذين الجزأين من باكستان جعلا منهما هدفاً سهلاً لهذا الانفصال.
سابعاً: تأثير إعصار ليلة 12 نوفمبر 1970م، حيث اجتاحت شواطئ باكستان الشرقية ثمان موجات عاتية تلاحقت وراء بعضها قادمة من المحيط بارتفاع عشرة أمتار, ثم انحسرت فخلفت وراءها نصف مليون من الجثث الهامدة، ودمرت البيوت والحقول وحولتها إلى أشلاء. حدث ذلك لأن النظام المركزي لم يهتم بوجود نظام جيد للأرصاد الجوية فيها، ولكون هذه الأعاصير تتجمع في المحيط قبل أن تشن هجومها، ويكون بالإمكان نزوح الناس إلى أماكن أخرى بعيدة عن تأثير هذا الإعصار، حيث أن هذا الإعصار يصيب مناطق محددة فيها. وفوق هذا وذاك لم تكن جهود الإغاثة والإنقاذ والإسعاف جيدة على الإطلاق.
كان لهذه الكارثة دور فعال في اكتساح الشيخ مجيب الرحمن في الانتخابات التي جرت في باكستان بشرقها وغربها تحت إشراف الحكم العسكري، فأصبح من حق الشيخ مجيب أن يشكل حكومة جديدة لحكم باكستان بجزأيها. ولكن النظام الحاكم في باكستان رفض قبول نتيجة الانتخابات، ورفض تسليمه السلطة، فقامت بدلاً من ذلك باعتقاله، وسعت لفرض العنف والقوة على الشعب البنغالي الذي استمرت ثورته واحتجاجاته لمدة عشرة شهور, حيث راح ضحيتها بين نصف مليون إلى ثلاثة ملايين. ويستبعد الخبراء العسكريون عدد الثلاثة ملايين، لكون الجيش الباكستاني كان يواجه محنة صعبة وشاقة، فضلاً عن كونه مشغول في الدفاع عن نفسه من غضب الجماهير ومقاومتها في البنغال.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الجيش الباكستاني قد ارتكب جرائم الاغتصاب بحق أكثر من 200 ألف فتاة، البعض انتحرن, والبعض همن على وجوههن في القرى والمدن خوفاً من الفضيحة كما صرح الشيخ مجيب الرحمن. إلا ّ أن هذا العدد -كما تفيد التقارير الخبرية- مبالغ فيه, حيث أفادت بعثة كاثوليكية أجرت تحقيقاً بأن عدد حالات الاغتصاب وصلت إلى أربعة آلاف حالة، والبعض يشكك حتى في هذا العدد.
وكذلك قام الجيش الباكستاني بقتل أساتذة الجامعات وكبار الأطباء والمفكرين والعلماء ومشاهير الكتاب والشعراء في بنغلادش ودفنهم في حفرة كبيرة واحدة, كما نسفوا 600 جسر, وكذلك عربات سكك الحديد، ودمروا البنية التحتية في البلاد، وأحرقوا كل أوراق النقد، وسحبوا كل الأرصدة والعملات الأجنبية من البنوك، وحتى الوثائق الرسمية في دور السلطة والحكم صادروها.
ولقد تسببت تلك المذبحة البشرية على يد الجيش الباكستاني إلى نزوح أكثر من عشرين مليون من الشعب البنغالي بحثاً عن الأمان وخوفاً من بطش العدو. ولجأ ما يفوق عشرة ملايين لاجئ إلى الهند، التي ساندت الثورة في إقليم البنغال، وساهمت في تحقيق حلم البنغاليين بانفصالهم عن باكستان وقيام دولتهم المستقلة (جمهورية بنغلادش الشعبية)، والتي جاءت بعد مخاض عسير، ومعاناة شاقة وصعبة راح ضحيتها الملايين من الشعب البنغالي، الذي كان ولا يزال يرزح تحت وطأة الفقر وقسوة الطبيعة التي لا ترحم, بالإضافة إلى الهزات والعواصف السياسية التي تعصف بهذا البلد بين حين وآخر، مع تزايد عدد السكان الذي وصل إلى 129 مليون وثمانمائة ألف نسمة في عام 2000م.
وتعد بنغلادش ثالث أكبر دولة إسلامية من حيث السكان بعد إندونيسيا وباكستان, رغم تعرضها السنوي للأعاصير والفيضانات، فمتوسط الذين يتأثرون أو يقتلون بالكوارث الطبيعية يصل فيها إلى 10 ملايين و900 ألف نسمة. ومساحة بنغلادش تساوي 144 ألف كيلومتر مربع، حيث يعيش على كل كيلو متر حوالي 866 فرداً.
ورغم كل هذه المآسي والنكبات والصعوبات والعقبات، ولكونها من الدول الفقيرة، ضمن اقتصاديات البلدان الأكثر فقراً والأكثر نماءً، والتي ترتفع ديونها الخارجية إلى معدلات خيالية؛ فإن بنغلادش تتمتع بنظام حكم ديمقراطي منذ العام 1991م، ولقد تولت المرأة سدة الحكم فيها، حيث توالت في حكم البلاد كل من:
البيجوم خالدة ضياء من العام 1991 إلى 1996م، والشيخة حسينة واجد من العام 1996 إلى 2001م. ومنذ أكتوبر/ تشرين الثاني من العام 2002م تتربع على عرش البلاد البيجوم خالدة ضياء، بينما يرأس الحكومة إياج الدين أحمد. والجدير بالذكر أن جمهورية بنغلادش الشعبية حصلت على انفصالها واستقلالها عن باكستان في العام 1971م.
وتبقى جمهورية بنغلادش تعاني من طوفان الفقر, والفيضانات والأعاصير الطبيعية، وهي ما تعرف بعواصف السيكلون العنيفة التي يصل ضحاياها إلى مئات الآلاف, ويتشرد الملايين ويصبحون بلا مأوى سنوياً، والإرهاصات السياسية التي تعصف بالبلاد بين فترة وأخرى، والتجاوزات والانتهاكات لحقوق الإنسان بين صفوف المعارضة، وحالات اغتصاب وغيره من صور العنف الجنسي ضد المرأة على نطاق واسع، وممارسة التعذيب الوحشي في السجون والذي ينجم عنه وفاة الكثيرين، والاحتجاز التعسفي, وقمع التظاهرات, واستخدام القوة المفرطة مع المتظاهرين، واستخدام عقوبة الإعدام ضد الرجال والنساء بدون مبرر، ومضايقة المدافعين عن حقوق الإنسان، وممارسة الضغوط على القضاة لإسقاط التهم المنسوبة للمنتمين إلى الحزب الحاكم، واعتقال الصحفيين, وفرض القيود على حرية الصحافة, وغيرها من ممارسات ضد حقوق الإنسان، والتي تتنافى مع أبسط مبادئ الديمقراطية، كما تفيد آخر التقارير عن منظمة العفو الدولية الصادرة في عام 2004.
----------------------------------------
المصادر : كتاب أحاديث في أسيا - محمد حسنين هيكل .
موقع : إسلام أون لاين الإلكتروني .
تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2004 م .