بريمر يتفوق على شارون
بقلم: محمد خليل الحوري
في آخر مؤتمر قمة عربية عُقد في بغداد في العام 1978م، وهو المؤتمر الذي أبعدت فيه مصر عن الحضيرة العربية بسبب الزيارة المشؤومة للرئيس المصري السابق "السيد محمد أنور السادات"، والتي أدت إلى عقد صلح وتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني الغاصب، ومن ثم توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وما تلتها من اتفاقيات أخرى بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية من جهة, والكيان الصهيوني من جهة أخرى -كل على انفراد- وسوريا التي قطعت مفاوضاتها نتيجة لتعنت الكيان الصهيوني ومراوغاته المعروفة.
في هذا المؤتمر العربي الذي ترأسه صدام، وأعلن فيه على الملأ متفاخراً ومتباهياً على أقرانه أصحاب الفخامة والسيادة, زعماء وقادة الدول العربية، بأن العراق يمتلك من السلاح ما يكفي لإحراق نصف إسرائيل، والحمد لله أنه لم يقل كل إسرائيل، لكانت المأساة مضاعفة ليس على العراق فحسب، بل على كافة الدول العربية، لكون الكيان الصهيوني، ومن وراءه الولايات المتحدة الأمريكية العظمى، أخذت هذا التصريح على محمل الجد، واعتبروه تصريحاً خطيراً يهدد وجود ومصير الدويلة الصهيونية، والذي بثته كافة وكالات الأنباء وتناولته الصحف في العالم كافة. تحركت كل القوى الموالية لهذا الكيان في كافة الاتجاهات وعلى أعلى المستويات، وأعلنت حالة الاستنفار القصوى، فراحت تدبر وتخطط وتحيك المؤمرات للانتقام من صدام ونظامه، وتدمير العراق, وذلك بخلق الأعذار والمسوغات ليتمكنوا من إيجاد ذريعة أو حجة يستطيعوا من خلالها وتحت غطاء الشرعية الدولية بمهاجمة العراق والانتقام منه، نتيجة بما تفوه به بحق إسرائيل، ورد اعتبارها والحفاظ على كيانها، وليكون ذلك عبرة لكل من تسّول له نفسه ويتجرأ ولو بكلمة تمس هذه البنت المدللة، والتي غرسوها خنجراً مسموماً في خاصرة الوطن العربي.
في البداية، تحالفوا معه ومدوه بكافة الأسلحة المتطورة والحديثة، وشجعوه وساعدوه على تصنيع أسلحة الدمار الشامل. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد, بل أوعزوا للآخرين بمساندته والوقوف بجانبه، فأصبح قوة ضاربة في المنطقة لا يستهان بها. وسرعان ما أعطوه الضوء الأخضر ليشن حربه الأولى والتي عرفت فيما بعد "بحرب الخليج الأولى" على الجارة المسلمة إيران, التي كانت لا تزال تعاني من مخاض الثورة الوليدة، ومع ذلك استطاعت تلك الثورة الصمود والاستمرار في الحرب لمدة ثمان سنوات، امتدت من العام 1980 وحتى العام 1988.
وما لبثت تلك الحرب أن وضعت أوزارها، حتي بادروا إلى توريطه في حرب أخرى ظالمة، وشجعوه على غزو الكويت، وأطلق عليها "حرب الخليج الثانية", وبالتحديد في العام 1990، حتى يتمكنوا بطرقهم الخاصة التدخل. ولقد نجم عن هذه الحرب من تداعيات وإفرازات كانت نتائجها وبالاً ومآسي، وكانت عواقبها وخيمة, ظلت آثارها ماثلة إلى يومنا هذا, وأهمها: أنها أوجدت شرخاً ساهم في تفاقم الانشقاق في الصف العربي، وفسحت مجالاً واسعاً لتدخل أمريكا والقوى الإمبريالية في المنطقة، أدت في النهاية لاحتلال العراق، وتدهور الأمن في المنطقة.
استغلت الولايات المتحدة الفرصة، وراحت تعد العدة, وتجيش الجيوش, وتشحذ الهمم, وتحرض الدول الأخرى للمشاركة في الحرب على العراق، بحجة تحرير الكويت، فكان لأمريكا ما أرادت، فسنحت الفرصة لها لدك العراق بآلاف الأطنان من القنابل والصواريخ، والتي يدخل في تكوينها اليورانيوم المستنفذ، والتي حولت البنى التحتية والمرافق والمنشآت العسكرية والحيوية في العراق إلى ركام وحطام. وسقط الآلاف من الأبرياء قتلى نتيجة للقصف المتواصل ليلاً ونهاراً.
ولم يكتفوا بكل ما آل إليه العراق من دمار وخراب، ففرضوا الحصار الاقتصادي الظالم الذي تضرر منه الشعب العراقي أكثر مما تضرر منه النظام، واستمر هذا الحصار لمدة تفوق الإثنا عشر عاماً، قاسى فيها الشعب العراقي الويلات, وتحمل الكثير من المشقات، وتساقط الكثيرون في براثن الموت، وخاصة الأطفال, نتيجة لانتشار الأمراض الفتاكة الناجمة عن آثار اليورانيوم المنضب وشح الأغذية والأدوية.
ورغم ما خلفه الحصار الشامل من آثار مدمرة طالت كافة الجوانب والشؤون المعيشية والصحية والتعليمية وغيرها من متطلبات الحياة، والتي أعادت العراق إلى الوراء عشرات السنين، فتآمروا على صدام وبتحريض من الكيان الصهيوني، لإحراق النصف الثاني من العراق، فدبروا له مكيدة وحيلة ليتمكنوا من التخلص منه ومن نظامه الجائر, الذي أذاق الشعب العراقي الذل والهوان, وأشبعه قتلاً وتنكيلاً، وفر الكثيرون بجلدهم إلى خارج العراق.
فابتدعوا قصة أسلحة الدمار الشامل، والتي تعلم أمريكا وبريطانيا بأن تلك الأسلحة المزعومة قد تم تدميرها بالكامل من قبل مفتشي الأسلحة الدوليين, التابعين للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأصبح العراق خالياً من تلك الأسلحة المزعومة. إلاّ أنهم أصروا على وجودها, وشنوا حربهم على العراق، وأمطروا العراق بقنابلهم العملاقة وصواريخهم الفتاكة, والتي يدخل اليورانيوم المستنفذ أيضاً في صناعتها. وبذلك تمكنت كل من أمريكا وبريطانيا وبعض الدول المتحالفة معهم من احتلال العراق وفرض الهيمنة عليه في ظاهرة غريبة على العالم المتحضر الذي يدعو إلى التحرر من الاستعمار وتبعية الدول الكبرى, وكانت بمثابة خروجٍ واضحٍ وصريحٍ على الشرعية الدولية. ورغم معارضة أغلبية شعوب العالم، والدول المحبة للسلام في العالم، وبما فيها هيئة الأمم المتحدة، لكونهم ينفذون لما خططوا له؛ فهم لم يعيروا كل تلك النداءات والدعوات الداعية لعدم شن الحرب، واتخاذ نهج الحوار وأسلوب الإقناع والتزام الجانب السلمي للوصول لحلول مرضية تجنب المنطقة الحروب التي تكون نتائجها مأساوية ومدمرة، ولها تداعيات وآثار خطيرة على الدول والشعوب، فضلاً عن الخسائر الفادحة والكبيرة والتي تسببها في الممتلكات والأرواح.
هذه الحرب التي أصروا على شنها هي ذات أبعاد وأهداف مختلفة، باتت تتضح معالمها يوماً بعد يوم، والهدف الرئيسي من ذلك هو الهيمنة والسيطرة على منابع النفط في العراق، وفرض القواعد العسكرية فيها للسيطرة على الدول المجاورة للعراق، والتحكم في مصير تلك الدول وتهديدها، والتي لا تسير في فلكها، وكذلك تقديم التسهيلات والمساعدات لتغلغل إسرائيل في المنطقة، ومن ثم إعادة رسم خريطة المنطقة، وتوزيع الأدوار من جديد لضمان وجودهم وتواجدهم في تلك المنطقة الإستراتيجية من العالم، للمحافظة على أمنهم ومصالحهم، وإضفاء الشرعية على وجود الدويلة الغاصبة، ومحاولة إعادة علاقات دول المنطقة مع ذلك الكيان، لتحظى بالصفة الشرعية والقانونية, وليتمكنوا من تمرير المخططات الإمبريالية والصهيونية على دول تلك المنطقة الحيوية. وهذا ما قامت به أمريكا مؤخراً وروجت له الدول الأوربية، وخرجت به علينا وهو ما يعرف "بمشروع الشرق الأوسط الكبير" المعروفة سلفاً نواياه وأهدافه.
واليوم تتضح وتنكشف ادعاءات أميركا من وراء حربها على العراق، بأنها كانت تروج لنشر الحرية والعدل، وستجعل من العراق واحة للديمقراطية، ونموذجاً يحتذى به في المنطقة. فالعالم لم يرَ اليوم ما زعمته أمريكا، بل ما نراه اليوم في العراق، رغم مرور عام كامل على تواجد الاحتلال في العراق، هو القتل والتنكيل والدمار، والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان. والأدهى من ذلك فإن قوات الاحتلال الأمريكية تمارس وتتبع نفس الأسلوب الذي يمارسه الكيان الصهيوني في الأراضي المحتلة، وهم كما هو معروف لدى الجميع يستعينون بخبراء من الموساد والشين بيت والعسكريين الصهاينة منذ بداية الاحتلال للعراق. فهم يقصفون العزل من الأبرياء في مدينة الفلوجة العراقية المحاصرة بطائرات F16 و F18, ويستخدمون القنابل العنقودية المحرمة دولياً، والتي استُخدِمتْ بشكل مكثف في حرب فيتنام، ويمنعون المساعدات الطبية والغذائية، ويعرقلون نقل الجرحى والمصابين المدنيين وغير المدنيين إلى المستشفيات، ويعتقلون الجرحى في المستشفيات، ويحتلون المستشفى التعليمي وكلية الطب في كربلاء المقدسة, وينتهكون حرمة المساجد، ويحتلون سطوحها في الفلوجة، ويقتنصون المارة من على سطح هذه المساجد، ويتعاملون مع المدنيين بكل وحشية وهمجية, تماماً كما يفعل الصهاينة. فالديمقراطية التي يتشدقون بها لا يطبقونها إلاّ على شعوبهم، وأما في تعاملهم مع الآخرين فلا يكون إلاّ بالقمع والإرهاب.
وكل ما تفعله الآن أمريكا في العراق، وما تمارسه من حرب مدمرة للقضاء على الانتفاضة الشعبية العارمة التي تقوم بها فصائل وفئات متوحدة من الشعب العراقي في المدن العراقية، من الموصل شمالاً حتى البصرة جنوباً، ضد الممارسات القمعية والاستفزازية والتي تتخذ طابع المواجهة المسلحة ضد قوات الاحتلال, كان نتيجة لما صرح به الزعيم الديني الشاب "السيد مقتدى الصدر" حين صرح في أحد خطبه يوم الجمعة بأنه يضع نفسه تحت تصرف المقاومة الإسلامية "حماس" في فلسطين المحتلة، وحزب الله في لبنان, وطلب منهم أن يعتبروه ذراعهم الضاربة في العراق.
ومن هنا بدأت أمريكا تأخذ كلامه على محمل الجد، ولقد أغلقت صحيفته "الحوزة الناطقة" نتيجة لمقال نزل في الصحيفة تحت عنوان "بريمر يحذو حذو صدام", واعتبر ما جاء في المقال أنه يدعو إلى التحريض وتأليب الرأي العام عليه، وهذا تناقض واضح لما يدعيه بريمر من وجود حرية الصحافة والتعبير عن الرأي، وهذا يبرهن ويثبت على أنهم لا يريدون ولا يتقبلون من يرفض سياستهم أو يخالف رأيهم، أو يتجرأ ويدلي بوجهة نظره المخالفة لهم، وخاصة فيما يخص الكيان الصهيوني، لأنهم يعتبرون أن تهديد أمن ووجود ذلك الكيان، يهدد أمنهم ووجودهم. وهذا ما يصرح به كبار المسؤولين في أمريكا, وكذلك انتقاماً جماعياً من أهالي الفلوجة لمقتل أربعة مقاولين أمريكيين والتمثيل بجثثهم. وقد صرح بريمر بأنه سينتقم لهؤلاء القتلى، فسرعان ما نفذ ما وعد به، ولكن بصورة وحشية وهمجية فاقت كل تصور، وأصبحت تفوق ما يقوم به السفاح الإرهابي شارون. فقصف المساجد والبيوت، وسقط ما يفوق الخمسمائة شهيد، أغلبهم من النساء والشيوخ والأطفال، وأكثر من 1200 ـ 1300 جريح، وترك آثاراً مأساوية وكارثية في مدينة الفلوجة، وحاصروا المدينة ومنعوا نقل الجرحى بسيارات الإسعاف، وكذلك دخول الإمدادات الطبية والغذائية، وغيرها من انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، تماماً كما فعلت إسرائيل في مدينة جنين الفلسطينية وغيرها من الأراضي المحتلة.