جولة الباطل ساعة وجولة الحق إلى قيام الساعة !!
بقلم: محمد خليل الحوري
هذه صورةٌ أخرى من صور الفساد المالي والإداري حدثت في شركة كبرى أخرى، ضمن هذا المسلسل الذي لم يلح في الأفق حتى الآن ما يبشر بانتهائه وتوقف حلقاته. وأبطال القصة هم من كبار المديرين ومساعديهم في دوائر مختلفة من الشركة. ولقد تورط هؤلاء في عمليات اختلاس، مما حدا بالشركة للاستغناء عن خدماتهم. وقد تم التعتيم على القضية، فلم نسمع بأنهم تعرضوا للمساءلة القانونية, أو أنهم أحيلوا إلى القضاء لينالوا جزاءهم العادل.
وفي اعتقادنا بأنهم أجبروا, أو بالأحرى أحيلوا إلى التقاعد المبكر, وأجزي لهم في العطاء, أو حوّلوا إلى شركة أخرى وتمت ترقيتهم كما يحدث في الكثير من الحالات, أو أنهم أسسوا لهم شركات خاصة بهم، أو دخلوا في مشاريع تجارية تدر عليهم الملايين من الدنانير، فقد طويت ملفاتهم, وأصبحت قضيتهم طي الكتمان, وأسدل عليها الستار، وأصبحت نسياً منسياً.
والضحية هو موظف مسؤول في أحد أقسام تلك الشركة، أرادوا أن يلفقوا له تهمة السرقة وخيانة الأمانة -على حد تعبير أحد كبار المسؤولين في الشركة, الذي صرح للإذاعة للرد على تظلم ذلك الموظف الذي عرض قضيته في أحد البرامج في إذاعة البحرين- وحاول هؤلاء التخلص من ذلك الموظف ليُحلوا مكانه موظفة أخرى في الشركة من بني جلدتهم، حيث حاولوا إلزامه بتدريبها لتحل محله، فتصرفوا بصورة مفضوحة وبكل غباء. ونتيجة لانتشار البطالة المزرية فإن هؤلاء ومن هم على شاكلتهم يمارسون الإرهاب الإداري للتضييق على بعض العاملين والعاملات بهدف تطفيشهم ومضايقتهم، ليجلبوا بدلاً منهم بني عمومتهم وأقاربهم من أجل منافع ومصالح شخصية.
والجدير بالذكر ليس هم بعض المسؤولين فقط الذين يتعرضون لمثل تلك الممارسات، بل هناك مديرون, وربما يكونون من كبار المديرين، ويجد الواحد منهم نفسه بين ليلة وضحاها قد أصبح وزيراً بلا وزارة, بمعنى أنه قد أصبح مجرداً من كافة الصلاحيات التي لديه، وداوم أم لم يداوم، فإن أحداً لن يسأل عنه لأنهم يتجاهلونه بهدف محاربته نفسياً، فيعيش في حالة نفسية مزرية ويضطر لمغادرة الشركة بعزة نفس وكرامة، وقبل أن يلتحق بأحد عنابر مستشفى الأمراض النفسية.
وإليكم قصة هذا الموظف المسؤول بالتفصيل الممل, وكما حدثت, وما لحق بها من مفاجأة كانت في صالح ذلك الموظف الذي كاد أن يفقد سمعته قبل وظيفته ويكون ضحية لمؤامرة خُطط لها من قبل شرذمة من الناس باعت ضميرها ووازعها الديني.
على الرغم من التوصيات والقرارات الرسمية التي تصدر من الجهات العليا في البلاد، في كل ما يهم العامل البحريني من إيجاد وظائف وتأهيل وتدريب وصيانة لحقوق العمال، ومحاربة التعسف والتلاعب بحقوق العمالة الوطنية، وقيام نقابات عمالية في الشركات والمؤسسات، لحماية مصالح ومكتسبات أبناء هذا الوطن من العاملين والعاملات؛ فلا يزال هناك من يتصرف ويعامل الموظفين والعاملين بصورة تعسفية، ويخلق المشكلات لهم ويضايقهم باستمرار من أجل أمور يمكن حلها ودياً وأخوياً، ويتصيد عليهم في الماء العكر ليجد ذرائع وأعذاراً لتمرير مخططاته ونواياه الخبيثة، ويصل إلى هدفه بأسرع وسيلة وبأسهل الطرق والأساليب.
والمشكلة تتلخص فيما يأتي:
طلب مدير الموظف المسؤول منه القيام بالعمل وقتاً إضافياً بعد انتهاء دوامه الرسمي ليقوم بإنهاء بعض الأعمال المتراكمة في المكتب، وذلك لعدم وجود موظف يقوم بمهام تلك الوظيفة في الوقت الحاضر. فلم يكن لهذا الموظف المسؤول أن يرفض أوامر مديره، فكان يواصل العمل بشكل يومي وحتى في أيام عطلته الأسبوعية، ويترك أسرته وأولاده لينهي تلك الأعمال المكدسة بأسرع وقت ممكن. وبالطبع يقوم بتسجيل تلك الساعات كعمل إضافي يستحق عليه الحصول على أجر كما هو متبع ومتعارف عليه في كافة الشركات وفي كل مكان في العالم. ومن ثم يقوم مديره المباشر -وهو بريطاني الجنسية- بالتوقيع على هذه الساعات بصورة رسمية، تدفع له بشكل اعتيادي عن طريق قسم الرواتب في الشركة، ولديه ما يثبت صحة المعلومات والبيانات المتعلقة بها، وعن طريق بطاقة الدخول والخروج الآلية. مع العلم بأن الكثير من الموظفين على الدرجة نفسها يقومون بالعمل ساعات إضافية، وتحتسب لهم كوقت إضافي مدفوع الأجر, وإدارة الشركة على علم ودراية بذلك.
تفاجأ ذلك الموظف بمدير الدائرة المباشر يقوم بالاتصال به ويقول له غاضباً: "أنت ومديرك تسرقون الشركة، وسأحوّل أمركما إلى شؤون الموظفين. تعرف بأنك على درجة (...) وتسجل لنفسك ساعات إضافية". فما كان من الموظف المسؤول إلاّ أن شكره على أسلوبه غير الحضاري، ومن ثم اتصل به ذلك المسؤول مرة أخرى وقال له: "اترك العمل الآن واذهب إلى بيتك"! ولم يكتفِ بذلك، بل قام بتوقيفه عن العمل لمدة خمسة أيام في البداية، وجعله يعيش على أعصابه وفي حالة من الترقب والقلق على مصيره بعد خدمته للشركة لأكثر من ستة وعشرين عاماً.
أهكذا يجازى الموظفون بعد كل هذه السنوات من الخدمة والعطاء؟ لكون هذا الموظف احتسب له أجراً لما قام به من عمل إضافي، يعامل بهذه الهمجية والرعونة والإرهاب.
بعد انتهاء فترة التوقيف عن العمل، استدعوه في مكتب شؤون الموظفين للاستجواب والتحقيق معه. وبعد توجيه اللوم والاتهامات والإهانات، قالوا له: "تعال غداً وسنخبرك بقرارنا والإجراء الذي سيتخذ ضدك". (وكأنه قد ارتكب جريمة كبرى).
وفي اليوم التالي ذهب إليهم. وبعد انتظار طال أمده عندما تركوه ينتظر على أحر من الجمر ليعاني من الترقب والقلق والرهبة، وهذا يدخل ضمن أسلوب التعذيب النفسي والمعنوي الذي يمارسه مثل هؤلاء المتنفذين الذين لا يراعون ذمةً ولا ضميراً. وأخيراً قالوا له وبكل برود: "اذهب إلى بيتك وسوف نتصل بك لاحقاً"! ثم اتصلوا به في نهاية الدوام وأخبروه بأنهم قرروا توقيفه عن العمل لمدة أسبوعين ابتداءً من يوم اتصالهم به.
من الواضح بأن مثل تلك التصرفات وغير المسؤولة تنم عن حرب نفسية هدفها تحطيم المعنويات ومضايقة الموظف وتطفيشه، ليجلبوا من يريدون ليحل محله. ومن قسوتهم استدعوا الموظف الذي كان يشغل وظيفة هذا الموظف سابقاً ليقوم بالبحث والتدقيق والتحري, لعلهم يجدون أي ممسك عليه, أو ما يدينه، حتى أنهم قاموا بتغيير أقفال المكتب والأدراج في مكتبه.
وبعد انتهاء الأسبوعين, وبعد المماطلة وعدم السماح له بممارسة عمله، استدعوه إلى مكتب شؤون الموظفين للتوقيع على إنذار كتابي نهائي، للإقرار بأنه كان يعلم بأن عليه أن لا يعمل أوقاتاً إضافيةً ويأخذ عليها أجراً, وأنه خالف الأنظمة المعمول بها في الشركة، وغيرها من التهم الباطلة لكونهم لم يستطيعوا الحصول على ما يدينه أو يمس سمعته من قريب أو بعيد. لكنه رفض التوقيع على إنذارهم لما يحمله من المغالطات والإجحاف، والتهديد باسترجاع المبالغ المدفوعة له والتي تتعلق بعمل الوقت الإضافي. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد, فمع أنه كان يداوم دون أن يمارس مهام عمله بالصورة الاعتيادية، إلاّ أنهم استمروا في مضايقته. ففي كل يوم يرسلون له رسائل استفزازية، ويطلبون منه تدريب إحدى الموظفات في الشركة لتقوم بمهام عمله، ويقولون له بأنهم سوف يبحثون له عن أية وظيفة في قسم آخر. وهذا بالطبع يجعله في حال من عدم الاستقرار النفسي والمعنوي، ويعد تعذيباً نفسياً ومخالفاً لما جاء في ميثاق العمل الوطني.
ولقد صرح أحد كبار المسؤولين في تلك الشركة للإذاعة، بعد أن رفع ذلك الموظف المسؤول مشكلته إلى الإذاعة بتصريح مليء بالمغالطات والقذف بحق الموظف، واتهامه بالسرقة وخيانة الأمانة، وهو لم يكن على دراية بحيثيات الموضوع، وهذا يعطي الموظف الحق في رفع دعوى قضائية عليه، والذي كان من المفروض أن يكون حيادياً ويسمع من كافة الأطراف المتنازعة قبل أن يتسرع ويشن هجومه عليه، مع العلم بأن الموظف المسؤول طلب مقابلة ذلك المسؤول، ولكنه كان يتهرب من مقابلته ويتذرع بأنه مشغول.
والجدير بالذكر أن هذا الموظف المسؤول لم يقف موقف المتفرج وهو يشاهد هؤلاء يتآمرون عليه ويشهرون به، فقد رفع قضيته إلى المدير التنفيذي في الشركة، وإلى رئيس النقابة فيها، وإلى الديوان الملكي, وإلى مكتب الوزير، وقد قابل الوزير، وأمره الوزير بكتابة رسالة قوية يطلب فيها منهم إرجاعه إلى وظيفته الأصلية، ويطلب منهم رد اعتبار لما حصل له. كتب الرسالة وسلمها لمكتب الوزير، ولكن الموظف المسكين في نهاية الأمر لم يحصل على أي شيء يذكر، واضطر مرغماً إلى التقاعد المبكر بعد طول معاناة وقلق ومجهود كبير بذله ليبرئ نفسه ويفند اتهاماتهم الباطلة.
ولكن كما يقال: "جولة الباطل ساعة وجولة الحق إلى قيام الساعة". ظهرت الحقيقة متجلية في أبهى صورها، فلم تمضِ إلاّ شهور قليلة وإذا بالحقيقة تكشف عن تورط مديره المباشر -الذي قال له: "أنت ومديرك تسرقون الشركة، وسأرفع أمركما إلى شؤون الموظفين"- ومساعديه وأحد كبار المسؤولين في الشركة في عملية اختلاس مالية وفضيحة مخزية لهم.
وهم الذين أرادوا توريط واتهام ذلك الموظف المسؤول بالسرقة وخيانة الأمانة والضغط عليه لإبعاد الشبهات عنهم ودر الرماد في العيون. وكان المفروض من الشركة رد اعتبار ذلك الموظف المسؤول وإرجاعه لوظيفته أو حتى ترقيته. ولكن الشركة تجاهلت قضيته، وتجاهلت خدمته لها لأكثر من ستة وعشرين سنة، وتركته يتقاعد وهو يحمل انطباعاً سيئاً عن الشركة وإدارتها، وقلقاً ومعاناةً قاسيةً تكبدها بلا سبب طوال عدة شهور، وتعرض لمشكلات كان هو في غنى عنها. وهي مؤامرة قذرة اقترفها أولئك النفر من الناس الذين همهم الحصول على المال عبر الطرق الملتوية وغير المشروعة، فتجردوا من ضميرهم ووازعهم الديني، وتخلوا عن مبادئهم وقيمهم وأخلاقهم، فكانت نهايتهم مزرية, وسمعتهم ملطخة بالعار والشنار. فهل يتعظ ويتعلم الدروس من يسيرون على دروبهم؟.