وقفة تآمل بين الماضي والحاضر !!
بقلم : محمد خليل الحـوري
مساكين أجدادانا الأولين ، عاشوا حياة زاهدة بسيطة ، يقنعون بالقليل ، ويحمدون ربهم على كل شيئ ، فحياتهم تتميز بالبساطة ، وعلاقاتهم مع بعضهم طيبة وقوية ، وكان إذا مرض أحدهم من أهل المحرق ، فإن البعض من أهل المنامة مثلا ، يسارعون ويكلفون أنفسهم مشقة وعناء الذهاب إليه ، لعيادته والإطمئنان على صحته ، رغم عدم توفر المواصلات يومذاك ، إلاّ عن طريق البحر ، وبواسطة القارب المصنوع من الخشب ، وهو ما يطلقون عليه محليا ، وباللهجة الدارجة ( اللنـج ) ، وكان في ذلك مشقة وصعوبة وتعب على البعض منهم ، ولكنهم يتحملون كل ذلك ، بإعتبار إنهم يقومون بأداء واجب إنساني وأخوي وشرعي .
وكانت العملة المستخدمة في البحرين منذ فترة متقدمة من الزمن ، وحتى بداية العام 1965 ميلادية تقريبا ، هي العملة الهندية ، المعروفة بالروبية ، وكانت الروبية تساوي 16 آنة ، ولا يزال بعض الناس من يستخدم لفظ الروبية ، ويطلقه على العملة البحرينية ، وهي الدينار وجزيئاته من الفلس حتى المائة فلس ، فيقول مثلا : عشر روبيات ، وهو يقصد بالطبع دينار واحد ، لكونها عادة ترسخت عند البعض ، وتعوّد على إستخدامها ، في حين لا يزال البعض يستخدم عبارات وأمثلة قديمة ، تتعلق بالروبية وجزيئاتها ، فيقول : إذا أراد ان يثبت لجماعته ، بأنه محقا وعلى صواب ، أو أنه متأكدا من أمرٍ ما :
أراهنكم .. الروبية 16 آنة ، بأن الأمر صحيحا ، أو أن توقعه بحدوث أمرا ما ، وليثبت لهم على أنه متأكدا منه 100 % ، كما يشاع هذا التعبير في يومنا هذا ، بين العامة والخاصة .
ومن أجزاء العملة الهندية ، توجد قطعة معدنية ، أكبر حجما من الآنة ، وهي ثمانية الشكل ، وكانوا يطلقون عليها ( الآنة عودة ) ، وهي تساوي أربع آنات ، والقطعتين منها تساويان نصف روبية ، والروبية تساوي أربع قطع منها ، بمعنى إن الروبية تساوي 16 آنة ، وهذا يؤكد صحة النظرية السابقة .
وإعتمد أهلنا السابقين على الزراعة وخيراتها ، وصيد السمك الوفير في إكتساب رزقهم ، وتيسير أمور معيشتهم ، والبعض منهم كانوا يركبون الأهوال ويخاطرون بحياتهم ، في سبيل توفير لقمة العيش الحلال لهم ولعوائلهم ، فكانت مهنة الغوص ومخاطرها ، هي السبيل الوحيد لهم ، مع عدم وجود أو توفير أبسط مستلزمات السلامة لتلك المهنة ، وكانت هناك مواسم للغوص ، حيث يتركون الأهل والأحباب والأولاد والخلان ، ويمكثون في غياهب البحار لمدة أكثر من ثلاثة شهور ، وقد يكون البعض منهم طعما سهلا ، لحيتان البحر وأسماك القرش ، وتظل عوائلهم بلا راع ولا كفيل ، تتقاذفهم أمواج الفقر والعوز والفاقة ، وقلما يجدون من – أهل الخير – من يعطف أو يحن عليهم ويساعدهم ، بما في ذلك النوخذة ، الذي كان كفيلهم يعمل معه على ظهر سفينته الشراعية ، والنوخذة يظل يترقب على أحر من الجمر ، بما يحصلون عليه من محارات حبلى ، تحوي بداخلها على لؤلؤ كثير ، ويتمنى أن يكون من الدانات والهيرات الكبيرة ، ليحصد من وراءهم الخيرات الوفيرة ، وبالتالي يحصل على الأموال الطائلة .
ومن الأمور التي تستوقف المرء في معاناة الغواصين في الماضي ، بأنهم قد تحملوا ظلما إجتماعيا مضاعفا من النواخدة من جهة ، ومن قساوة وبطش البحر بهم من جهة أخرى ، ولم تكن هناك أنظمة وقوانين تحميهم وتنصفهم ، وتنظم سير عملهم ، أو تكفل لهم حقوقهم المشروعة ، وتعوضهم عن ما ينتابهم من أخطار ، إثناء ركوبهم أمواج البحر ، أو إثناء سبر أعماق البحار ، والغوص في أعماقه ، وبدل الجهد الجهيد في سبيل الحصول على أكبر عدد ممكن من المحارات الحبلى بالآلئ ، التي تشكل ثروة كبيرة يومذاك ، تذهب إلى جيوب ناس محددين يعرفون بالنواخذة ، ومن ثم الطواويش الذين يشترون اللؤلؤ من النواخذة ، ويبيعونه بأثمان مضاعفة لمندوبين شركات عالمية ، وقد يكون الطواش هو صاحب السفينة ، أو شريكا مع النوخذة الذي يعمل على ظهر سفينته .
في حين لا ينتاب الغواصين الكادحين بمختلف مراتبهم المختلفة ، من هذه الثروة الطائلة ، إلاّ ما يسدون به رمقهم ورمق عوائلهم – في أحس الأحوال – هذا إذا ما إستطاعوا من تسديد ديونهم ، التي عادة ما يستلفونها من النوخدة ، الذي يفرض عليهم مبلغا إضافيا ، وهو عبارة عن ربا غير مباشر ، ولكن النوخذة الذي غالبا ما يكون من بين أحد التجار ، الذين يبيعون سلع إستهلاكية ، كالتمور ومواد البناء البدائية وغيرها ، يتحايل بطريقة أو بأخرى ، ليتجنب الشبهات الشرعية .
فقبل الدخول إلى البحر على ظهر سفينة النوخذة ، يسعى الغواصين لإقتراض بعض المال من النوخذه ، ليكون مصروفا لنفقات عوائلهم إثناء غيابهم في رحلة الغوص ، فلو أراد مثلا أن يقترض الغواص مبلغا وقدره 50 روبية ، فيشترط عليه النوخذة أن يشتري من عنده بضاعة يساوي ثمنها 50 روبية ، ثم يعاود الغواص بيعها على النوخذة بمبلغ 40 روبية ، فيعطيه النوخذه 40 روبية ، كقرض قيمته الفعلية أو الشرائية 50 روبية ، على أن يسدده بالكامل عند عودته من الغوص ، وإلاّ سيتحمل الأبناء البالغين وزر هذا القرض - إذا لا سمح الله – إن كان الأب المسكين قد أصبح من صيد أمس – كما يقال – في أعماق البحار والمحيطات المظلمة ، ويجبرهم على العمل كغواصين على ظهر سفينته في الموسم القادم ، ليقتص منهم ويسترجع دين والدهم ، وعليه فإن مبلغ الربا – غير المباشر - هو عشر روبيات ، في حين نرى اليوم بأن البنوك الربوية تفرض الفوائد المركبة وغير المركبة ، على المقترضين منها في وضح النهار ، ودون مواربة ، أو خجل وإستحياء .
وحياتنا اليوم أصبحت معقدة ومركبة هي الأخرى ، وتشوبها الكثير من المخاطر والأهوال الجسام ، فالأمراض – رغم الطفرة العلمية – والتقدم العلمي الهائل الذي تشهده الساحة ، إلاّ إن الأمراض الفتاكة والخطيرة ، تطل برأسها علينا كل يوم ، فمن السرطان، إلى الإيدز ، إلى الحمى القلاعية ، إلى وباء الكبد السحائي ، إلى إنفلونزا الطيور ، إلى جنون البقر ، إلى إنفلونزا الخنازير ، الذي أثار الخوف والفزع في صفوف الشعوب والدول ، وأحدث هزات وزلازل ، وعواصف مالية في العالم ، ليضاعف من جسامة الأزمة المالية ، التي تعصف بالعالم وتزلزل أركانه ، إلى الكوارث الطبيعية من زلازل وفيضانات وعواصف وأعاصير ، إلى حروب طاحنة في كل مكان ، وموجات من التفجيرات الإرهابية تطال الأبرياء ، إلى أوضاع سياسية ساخنة ومتوترة ، تنذر بوقوع حرب عالمية ثالثة قادمة ، تهدد بدمار شامل يطال البشر والشجر والحجر .
أليست حياة أجدادنا هي الأكثر هدؤا وأمنا ومحبة وسلاما ، والعيش ببساطة وراحة بال ، والإقتناع بما قسمه الله لهم ، والجميع ينعم بالصحة والسلام والأمان ، في بيئة نظيفة خالية من التلوث والإختناق والنفاق ، راضين وقانعين بما رزقهم الله من خيرات ونعم وفيرة ، وسعد أجدادنا الأولين بما حباهم الله به ، ولقد عاشوا وماتوا وهم لربهم شاكرين .
فتقاسموا لقمة العيش بينهم ، وعاشوا الحياة بحلوها ومرها ، في أمن وسلام وطمأنينة ، رغم ما تعرضوا له – في بعض الأزمان - من إعتداءات وحروب وغزوات من قوى معتدية خارجية ، وربما واجهوا الفقر والأمراض والقحط والجفاف ، ولكنهم رضيّوا بما قسمه الله لهم وأعطاهم ، فشكروه على كل حال ، في السراء والضراء .