ففي ظل دولة المواطنة، يستحق كل مواطن، وبلا تمييز على الاسس التي ذكرناها للتو، جزء من خيرات بلاده، وله الحق في العيش بكرامة وحرية وامن، له من الحقوق وعليه من الواجبات بلا تمييز، وان الاساس في المفاضلة هو الانتماء للوطن وليس الانتماء للدين او المذهب او منطقة الاقامة او الانتماء القومي.
يقول عليه السلام {ولقد بلغني ان الرجل منهم كان يدخل على المراة المسلمة، واخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعثها، ما تمتنع منه الا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم، ولا اريق لهم دم، فلو ان امرا مسلما مات من بعد هذا اسفا ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا}.
ان على الدولة ان تدافع عن مواطنيها، بلا تمييز، اما ان تستنفر كل قواها اذا تعرض زيد لعدوان، ولا تحرك ساكنا اذا تعرض عمرو الى عدوان مماثل، فهذا هو الظلم بعينه الذي سيسقطها ان عاجلا ام آجلا، فـ (الحكم يدوم مع الكفر، ولا يدوم مع الظلم).
والى المسؤول او الزعيم الذي يتلاعب بالالفاظ المنمقة والحلوة ليخدع بها الفقراء والمعدمين، فان العدل ليس لقلقة لسان، وهو ليس وعود واكاذيب، وهو ليس شعارات ولافتات، قد يخدع بها الخطيب بعض الناس في بعض الوقت، ولكن بالتاكيد ليس كل الناس في كل الاوقات، فان (حبل الكذب قصير) فالعدل وفاء، والوفاء لا يتحقق الا بالصدق، ولذلك امرنا الله تعالى ان نكون مع الصادقين، فقال في محكم كتابه الكريم {يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} وقرن الصدق باعظم المناقبيات، لانه لا يتحقق من دونها، فقال عز من قائل {الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالاسحار} وعندها سينتفع الصادق بصدقه {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} ما يعني ان النفع الاكبر للصدق يعود على صاحبه اولا واخيرا، سواء في الدنيا او في اليوم الاخر.
فالعدل، في نظر الامام، لا يتحقق الا بالوفاء، والوفاء لا يتحقق الا بالصدق، فلقد خطب يوما بالناس فقال {ايها الناس، ان الوفاء توأم الصدق، ولا اعلم جنة اوقى منه، ولا يغدر من علم كيف المرجع، ولقد اصبحنا في زمان قد اتخذ اكثر اهله الغدر كيسا، ونسبهم اهل الجهل فيه الى حسن الحيلة، ما لهم، قاتلهم الله، قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها مانع من امر الله ونهيه، فيدعها راي العين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين}.
والعدل في نظر الامام، ان لا تعتدي على الحكومة اذا كنت في المعارضة، وان لا تعتدي على المعارضة اذا كنت في الحكومة، فالسلطة لا تجيز لك ظلم من يخالفك الراي، كما ان مخالفتك للسلطة لا تجيز لك الاعتداء عليها اذا كانت تتمتع بثقة الاغلبية من الناخبين (الناس) فالميزان هو راي الناس، بنظر الامام، بمعنى آخر، فان شرعية اية سلطة هو ثقة الناس بها، اقصد غالبية الناس.
يقول عليه السلام لما عزم (اهل الحل والعقد) على بيعة عثمان {لقد علمتم اني احق الناس بها من غيري، ووالله لاسلمن ما سلمت امور المسلمين، ولم يكن فيها جور الا علي خاصة، التماسا لاجر ذلك وفضله، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه}.
وبهذا النص اجاز الامام للرافضين للسلطة حق المعارضة.
اما عندما تداكت على قدمية السلطة، بعد مقتل الخليفة الثالث، فلقد قال عليه السلام {دعوني والتمسوا غيري، فانا مستقبلون امرا له وجوه والوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وان الافاق قد اغامت، والمحجة قد تنكرت، واعلموا اني ان اجبتكم ركبت بكم ما اعلم، ولم اصغ الى قول القائل وعتب العاتب، وان تركتموني فانا كاحدكم، ولعلي اسمعكم واطوعكم لمن وليتموه امركم، وانا لكم وزيرا خير لكم مني اميرا}.
فاذا اختارت الناس احد، فلا يحق لمن يعترض ان يقاتل الحكومة او يعتدي عليها، فان ذلك ليس من العدل والانصاف ابدا، واذا كان له الحق في الاعتراض، فان ذلك لا يمنحه حق العدوان، او القتال، شريطة، كما اسلفنا، ان تكون السلطة تتمتع بالحد الادنى من ثقة الناس، كان تكون نسبة من انتخبها واختارها (51%) مثلا.
يقول عليه السلام في معرض رده على تمرد معاوية بن ابي سفيان على سلطته، بعد ان بايعه الناس في عملية ديمقراطية قل نظيرها، ومن باب قاعدة الالزام الشرعية، التي تقول (الزموهم بما الزموا به انفسهم) {انه بايعني القوم الذين بايعوا ابا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد ان يختار، ولا للغائب ان يرد، وانما الشورى للمهاجرين والانصار، فان اجتمعوا على رجل وسموه اماما كان ذلك لله رضى، فان خرج عن امرهم خارج بطعن او بدعة ردوه الى ما خرج منه، فان ابى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى}.
ومن باب (الشئ بالشئ يذكر) فلقد وصف الامام بيعته بالخلافة بقوله {فبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم علي تداك الابل الهيم على حياضها يوم وردها، حتى انقطعت النعل، وسقط الرداء، ووطئ الضعيف، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم اياي ان ابتهج بها الصغير، وهدج اليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت اليها الكعاب}.
وان من العدل، في نظر الامام، تمكين الحاكم المنتخب من تنفيذ خططه وبرامجه، وعدم الاستمرار في وضع العصي في عجلة حكومته، لافشاله واسقاطه، فلقد قال الامام بعد ان تم انتخابه من قبل الاغلبية {ايها الناس، اعينوني على انفسكم، وايم الله لانصفن المظلوم من ظالمه، ولاقودن الظالم بخزامته، حتى اورده منهل الحق وان كان كارها}.
ارايتم بعض (القادة) كيف انهم يبذلون كل ما بوسعهم لافشال الحكومة المنتخبة، لا لشئ، وانما فقط ليحلوا محلها، وياليتهم فعلوا شيئا عندما كانوا في السلطة، ليعيد الناس لهم الثقة.
ان من العدل ان تعين الحاكم المنتخب على اداء مهامه وتنفيذ برامجه، فتقومه اذا انحرف، وتعينه اذا استقام، اما ان تعرقل كل ما من شانه ان يحقق به نجاحاته، فذلك ظلم كبير لا يرتضيه عاقل فضلا عن رب العزة.
يقول الامام {رحم الله رجلا راى حقا فاعان عليه، او راى جورا فرده، وكان عونا بالحق على صاحبه}.
اخيرا، فان من العدل الانصاف، الذي يعني في قاموس الامام ان لا تحتكر الحق وتوزع الباطل على من يختلف معك، فلقد كتب الى اهل الكوفة، عند مسيره من المدينة الى البصرة {اما بعد، فاني خرجت من حيي هذا، اما ظالما، واما مظلوما، واما باغيا، واما مبغيا عليه، واني اذكر، بتشديد الكاف، الله من بلغه كتابي هذا لما، بتشديد الميم، نفر الي، فان كنت محسنا اعانني، وان كنت مسيئا استعتبني}.
اللهم ارنا الحق حقا فنتبعه، والباطل باطلا فنجتنبه، ولا تجعلهما متشابهين علينا، فنتبع هوانا بغير علم ولا هدى ولا كتاب مبين، آمين.