اما بالنسبة الى المسؤول، فيجب عليه ان يكون مستعدا للحديث عن مشاكله ومعاناته للناس، كما يجب عليه ان يكون مستعدا للدفاع عن نفسه اذا ما اتهم او شك فيه الناس، او لتوضيح موقفه لهم اذا ما التبس الامر عليهم، فان ذلك افضل له واسلم من ان يخفي عليهم اسراره، فيسمعونها من هذا وذاك، مضافا اليها من الفلفل والملح والبهارات، كما يقول العراقيون، فتشوه وتتبدل الحقيقة فيكون عندهم متهما، كما اسلفنا، لانه خسر فرصة الدفاع او التوضيح، ولذلك اوصى امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام مالكا الاشتر عندما ولاه مصر بقوله {وان ظنت الرعية بك حيفا، فاصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم باصحارك، فان في ذلك رياضة منك لنفسك، ورفقا برعيتك، واعذارا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق}.
هنا يقفز امامنا السؤال التالي، لماذا لا يصارح المسؤول عندنا شعبه بمشاكله، او يبادر للدفاع عن نفسه امام الشائعات والدعايات؟.
بمعنى آخر، لماذا لا يتعامل المسؤول عندنا بشفافية مع الناس؟.
نحن نعرف جيدا، لماذا يخفي الطاغوت الحقائق عن شعبه، ويسعى لحجب المعلومة الصحيحة عن الناس، لانه يريد ان يقودهم كيف يشاء، والمعلومة التي تفضي الى العلم الذي يفضي الى البصيرة، لا تخدم سياسات الطاغوت، ولذلك وصف امير المؤمنين عليه السلام طريقة تعامل معاوية بن ابي سفيان مع اهل الشام بقوله {الا وان معاوية قاد لمة من الغواة، وعمس عليهم الخبر ــ اي ابهمه عليهم وجعله مظلما ــ حتى جعلوا نحورهم اغراض المنية} ولكن، لماذا يفعل المسؤول ذلك في بلد ينشد بناء النظام الديمقراطي، كالعراق اليوم؟.
اعتقد ان السبب يعود الى امرين مهمين:
الاول: هو ان المسؤول عندنا لم يتعود على الصراحة، ولم يتعلم كيف يعبر عن مشاكله، ولا يعرف كيف يدافع عن نفسه، لانه وصل الى موقع المسؤولية بعد عمر طويل قضاه ناشطا في صفوف التنظيمات والاحزاب السرية، وان من عمل في صفوف مثل هذه الاحزاب، يعرف ماذا تعني الحياة الحزبية السرية، انها نمط خاص وطريقة خاصة في العمل، تحول العنصر الى كتلة من الاسرار، والى صندوق اسرار مغلق ومنطو على نفسه، يعرف كيف يسمع ولكنه لا يعرف كيف يتحدث، ولذلك فهو عندما يصل الى السلطة من هذه الاجواء، لا يعرف كيف يوطن نفسه على اخلاقياتها التي تختلف جذريا عن اخلاقيات ووسائل العمل السري، فضلا عن انه لا يفكر بالاستعجال في تعلم مهنة السلطة خوفا من ان تضطره الظروف مرة اخرى فيعود ينشط في صفوف العمل السري، طبعا وكل ذلك بسبب الاستبداد والديكتاتورية التي ظلت تحكم العراق عقودا طويلة من الزمن.
الثاني: هو ان المسؤول عندنا يخاف ان يتعامل بشفافية مع المشاكل والاخطاء، لانه يتصور ان الحديث عن الخطا يجرئ الناس على النقد او ان الحديث عن المشاكل يشجعهم على محاسبته، وكل هذا خطا في خطا، وان العكس هو الصحيح تماما، فعندما يتحدث المسؤول عن مشاكل العمل، يمنح الناس الفرصة ليبحثوا له عن مبرر لفشله مثلا، او يدعوهم الى ان يصبروا عليه لحين انجاز المهمة، وهكذا، اما اذا كان يقلب الحقائق فيتحدث عن انجازات غير موجودة، وعن مشاريع في ذهنه فقط وعن امكانيات عظيمة لا اساس لها في ارض الواقع، عندها فسوف لن يغفر له الناس فشله ، لانهم سيلومونه ويحاسبونه بما قال، فماذا عسى الناس ان يقولوا اذا كان المسؤول هو من كذب على نفسه قبل ان يكذب عليه غيره، وقبل ان يكذب على الناس؟ اولم تقل القاعدة (الزموهم بما الزموا به انفسهم)؟.
طبعا، هذا لا يعني ان المطلوب من المسؤول ان يثرثر باسرار الدولة، ابدا، انما المطلوب هو ان يتحدث بصراحة وواقعية عن مسؤولياته، فيما يتعلق بالناس، فاذا كان قادرا على انجاز شئ وعد، واذا لم يكن قادرا على ذلك فلماذا يورط نفسه بوعود يعرف هو قبل غيره انه عاجز عن الالتزام بها؟.
يقول امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام {الايمان ان تؤثر الصدق حيث يضرك، على الكذب حيث ينفعك، والا يكون في حديثك فضل عن عملك، وان تتقي الله في حديث غيرك}.
تاسيسا على ما تقدم، اعتقد اننا بحاجة ماسة الى ان نغير طريقة تفكيرنا على هذا الصعيد، ولنكن على يقين بان:
اولا: ان الحل ياتي من خلال التاشير على المشكلة وليس بالقفز عليها او ترحيلها.
ثانيا: كما ان التطور والتنمية يمكن تحقيقهما من خلال تشخيص الخلل والخطا وليس من خلال الحديث عن النجاحات، ولذلك ففي البلدان الصناعية يراقب كل منتج، بفتح التاء، بدقة لتشخيص قصوره وتعثره لتطويره، فبعد 200 تجربة فاشلة نجح اديسون في اكتشاف المصباح الضوئي.
ثالثا: ان لا نخاف من الشفافية، ولا نخشى الصراحة، فلا نسم كل نقد بالمؤامرة، وكل خلاف بالفتنة، ونطعن بكل معلومة تتسرب الى الراي العام، ونرتجف منها وترتعد فرائصنا من الحقائق، ونخاف حتى من الكاريكاتير.
ليكن اقرب اصدقائنا هم الصحفيون، واحب الوسائل اليها هي وسائل الاعلام، فلا نخشى القلم ولا نعادي الورقة ولا نتحامل على آلة التسجيل.
رابعا: لماذا تنتج مؤتمراتهم مؤامرات ومشاريع وحلول؟ اما مؤتمراتنا فطبيخ وقهقهات، لماذا؟ لانهم يثبتون على الورق المشاكل والاخطاء والنواقص والاخفاقات، اما نحن فنضع على الطاولة وهم الانجازات والمديح.
اننا تعلمنا ان نمجد العملية التي نجحت والمريض الذي مات.
لذلك، فان اغلب اجتماعاتنا لا تصل الى نتيجة تذكر، لاننا نجامل بعضنا البعض الاخر، فلا نلامس الحقيقة ولا نؤشر على المشكلة، والنتيجة ان الجميع يخرجون من الاجتماع، وكل يفسر النتائج على هواه وليس على حقيقتها، فيظن الجميع ويتوهمون بانهم حققوا نقاطا على خصومهم، او انجزوا شيئا ما.
كما ان بيانات اجتماعاتنا باهتة ومكررة وهي نسخ طبق الاصل لبيانات مشابهة لاجتماعات مماثلة سابقة.
اننا ننشغل بالمجاملة عندما نتحدث الى بعضنا، اكثر من انشغالنا بالقضايا المهمة التي نجتمع من اجلها، فترانا نسترسل اكثر الوقت، بالثناء والمديح لبعضنا البعض الاخر، ثم نعرج على الموضوع الاساس في الدقائق الخمس الاخيرة، وعندما نهم بالدخول في الموضوع، بعد ان يحمى الجدال، اذا بالوقت قد انتهى، بعد ان يكون (الوقت الذي هو كالسيف) قد قطعنا، قبل ان نقطع به امرا.
ان طريقتنا في الحوار تعلمنا الكذب والنفاق، لاننا نجامل في الاحتماعات، ونتكاشف في الطرقات، ولذلك، فاننا لا ننتج شيئا في اجتماعاتنا، اما في الطرقات فننتج الشائعات والدعايات والكلام الذي لا يغني ولا يسمن من جوع.
لقد تحدث القران الكريم عن هذه الطريقة في اكثر من آية كريمة، كما في قوله تعالى {ومنهم من يستمع اليك حتى اذا خرجوا من عندك قالوا للذين اوتوا العلم ماذا قال آنفا اولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا اهواءهم} او كما في قوله تعالى {قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لاخوانهم هلم الينا ولا ياتون الباس الا قليلا، اشحة عليكم فاذا جاء الخوف رايتهم ينظرون اليك تدور اعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فاذا ذهب الخوف سلقوكم بالسنة حداد اشحة على الخير اولئك لم يؤمنوا فاحبط الله اعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا}.
لقد لخص احد العراقيين هذه الحالة في حديث سري مع مسؤول بريطاني، عندما ارادت بريطانيا ابان احتلالها للعراق عام 1917، ان تتعرف على راي العراقيين من خططها ازاء البلاد، وما اذا كانوا يريدون اقامة دولة عربية يحكمها امير عربي او انتدابا بريطانيا او اندماجا كاملا مع بقية مستعمراتها، وذلك في قصة الاستفتاء المعروفة، بقوله (ان سؤالكم لكل فرد على حدة وسريا، عن رايه هو بمنتهى الحكمة، وثقوا انه اذا كان لديكم مجلس كبير فلن تستطيعوا الحصول على راي مخلص من اي كان ابدا، انتم الانجليز لا تفهمون طرقنا، فلو قام رجل كبير في مجلس واقترح شيئا فاننا نشعر ملزمين بالموافقة على كل ما يقول، وذلك مجاملة، وخوفا ايضا، معا، فضلا عن الخجل الذي سيمنع البعض من اعطاء رايه الصريح).
ان الخجل والخوف والمجاملة وعدم الصراحة في الحديث، ان كل ذلك ينتج النفاق في القلب، فعندما لا يتحدث المرء عن رايه بصراحة في اجتماع عقد خصيصا لسماع الاراء المختلفة من اجل التوصل الى قرار سليم، ترى، اين سيدلي به؟ افي الشارع ام في المقهى؟ وماذا ينفع ذلك، الا ان يزيد البلبلة في الشارع ويعقد من القضية، بعد ان تطير الشائعات والدعايات التي لا تجدي نفعا في مثل هذه الحالات ابدا.
يجب ان نتشبث بالاجتماع، كمكان وحيد للحديث بصراحة ووضوح وشفافية، فلا نلف ولا ندور، اذ عندها سيخرج الجميع من الاجتماع وكل واحد يعتقد بانه حقق ما اراده من الاجتماع، وفي الحقيقة، لا احد حقق شيئا، لان الغموض لا يقف على المشكلة، وبالتالي لا يحلها ابدا، بل يعقدها اكثر فاكثر.
ان الصراحة راحة، كما يقول المثل، فاولى بنا ان نتصارح في جلساتنا، من ان نتقاذف في الاعلام.
ان المواطن ليلمس فارقا كبيرا جدا، بل تناقضا واضحا بين ما يدلي به الزعماء بعد كل اجتماع، وبين ما يجري على ارض الواقع بعده، وهذا سببه انهم لا يتحدثون بصراحة، فيظلون يلفون ويدورون حول المشكلة من دون ان يجدوا لها حلا، ولذلك تتفاقم الامور بمرور الوقت، وتتعقد المشاكل بكرور الايام، وهم يظنون انهم يخدعون المواطن بالكلام المعسول وبتبويس اللحى، لان المواطن يعلم، ربما حتى اكثر من الزعماء انفسهم، بان المشاكل القائمة بينهم حقيقية وجدية، لا يمكن حلها بسياسة تبويس اللحى وبالتمجيد والتمجيد المتبادل، وبالمديح الفارغ، فاحسن للزعماء ان يتحدثوا عن مشاكلهم، قبل ان يفتضح امرهم امام الشعب، ان عاجلا ام آجلا، فانهم ان استطاعوا ان يخفوا مشاكلهم مدة، فانهم غير قادرين على اخفائها كل المدة، خاصة في زمن عالم القرية الصغيرة، وشيوع الفضاء، وثورة التكنولوجيا، ففي مثل هذه الاجواء لا يمكن التوسل بسياسات المنع والاخفاء وتكميم الافواه والتبرير غير المقنع، ابدا.
ان المواطن يحترم المسؤول الذي يحترم عقله ووعيه، وان من دلائل احترام المسؤول لعقل المواطن ووعيه، هو ان لا يكذب عليه ولا يسعى لاخفاء الحقيقة عنه، ولنتذكر دائما بان الحقيقة في عالم اليوم لا يمكن اخفاؤها على المواطن مدة طويلة، فهناك الاعلام المتربص، وهناك الزملاء المشاغبين، وهناك رفاق الدرب الذين يحاولون الصعود على حساب رفاقهم الاخرين، وكل هؤلاء على اتم الاستعداد لكشف الحقائق بصورة او باخرى، فتراهم يسارعون الى اماطة اللثام عنها، بمجرد ان يسعى احد القادة الى اخفائها، من خلال نبرة حديثه او تلعثمه في الكلام او بتغير لون وجهه عند الحديث.
فليحترم المسؤول عقل الناس، بحديثه بصراحة وشفافية، وليغلق المسؤول ابواب جهنم عليه التي قد يفتحها رفاقه الاخرون، بالحديث بصوت مرتفع عن حقيقة مشاكله، وبذلك سيحترمه الناس وسيبررون مشاكله اذا بادر هو وتحدث عنها.
يجب ان تكون علاقاتنا مع بعضنا، كعلاقة الطبيب مع مريضه، او المرء مع محاميه، فالطبيب والمحامي لا يستطيعان ان يحددا المشكلة (الصحية والقانونية على التوالي) اذا لم يطلعا على التفاصيل وبكل صدق ووضوح، وكلما اطلعا على التفاصيل الصحيحة والدقيقة، كلما اقتربا الى تحديد المشكلة، وتاليا الى تحديد الحلول.
هكذا يجب ان نكون عندما نجلس لبحث امر ما، وهكذا يجب ان نكون عندما نواجه مشكلة او اردنا ان نجد حلا لمعضلة او نبحث عن طريق للتقدم والتطور والانجاز الصحيح، فالتفاصيل الدقيقة والصحيحة، وعدم التوسل بالتضليل والكذب والخداع والتبرير، ان كل ذلك يساعد على ايجاد الحلول وتلمس خارطة طريق صحيحة.
16 نيسان 2009
يتبع